السيسي وعودة الساداتية

السيسي وعودة الساداتية

07 ابريل 2014

السادات قبل مقتله في 1981 وبجانبه مبارك (أ.ف.ب) أرشيفية

+ الخط -
يعتقد "مثقّفون" عرب أنّ ما يحدث في بلدان الربيع العربيّ، ليس سوى سلسلة مؤامراتٍ تستهدف الجيوش العربيّة؛ ويجري توظيف هذا الاعتقاد الساذج في سياق الدفاع عن تلك الجيوش المتورّطة، حاليّاً، في العدوان على شعوبها، بحجّة أنّها أقوى الأدوات الّتي تدافع بها "الدولة" العربيّة عن جسدها، في مواجهة العدوان والخراب والفوضى.
والحقيقة أنّ لبعض الجيوش العربيّة ماضياً مسكوتاً عنه يمتدّ، في الغالب، إلى أواخر الحقبة الكولونياليّة الّتي شهدت بدايات تفكيك الاستعمار التقليديّ، وولادة ثورات الاستقلال. ولدت تلك الجيوش من رحم الفيالق العربيّة، والّتي كانت تعمل ضمن تشكيلات الجيوش الاستعماريّة ذاتها، قبل أن يجعل منها "الاستقلال" مشاريع جيوش وطنيّة، ولذا، تخلو سجلّات أعمالها من بند المساهمة في صنع الاستقلال.
وفي مرحلة الانقلابات الّتي دشّنها حسني الزعيم، بانقلابه المشبوه عام 1949، راحت الجيوش العربيّة تتحوّل، تباعاً، إلى أجهزة للحكم، وأصبحت منذورةً، بالدرجة الأولى، لحماية "الأنظمة"، لا لحماية "الأوطان". ولذا، يمكن القول إنّ الدولة الاستبداديّة العربيّة ليست تعبيراً عن خللٍ، ضارب الجذور في الثقافة العربيّة، كما يحلو لبعضهم أن يعتقد، بل هي محصّلة للتشوّهات الضخمة التي نجمت عن شراهة العسكر إلى السلطة، وطغيانهم وفسادهم في الأرض.
كانت الانقلابات العسكريّة تضرب في كلّ مكان: في سورية ومصر والعراق وتركيّا وليبيا وإيران واليمن وتشيلي وغواتيمالا والكونغو والبرازيل وغيرها، واتّضح في ما بعد أنّ الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة، في الغالب، هي الّتي كانت تعبث هنا وهناك، فتسقط أنظمة وتنشئ أخرى. لكنّ انقلاب الضباط الأحرار في 23 يوليو/تموز 1952، والذي تبنّى الحلم العربيّ بالوحدة والحريّة، وجعل من مصر دولةً مركزيّة ذات تأثير بالغ في العالم العربيّ والعالم الثالث، بدا مختلفاً وشبيهاً بالثورة؛ وساهمت شخصيّة جمال عبد الناصر الساحرة في خلق قاعدة شعبيّة عريضة، تؤيّد خطابه العروبيّ، وتغضّ الطرف عن الأخطاء الّتي يقع فيها نظامه، مهما تكن. وعندما مات عبد الناصر، ماتت "الناصريّة" على الفور، ولم يعد لها أيّ دور في السلطة، لكنّ الانقلاب لم يمت. إنّ عبد الناصر، في الحقيقة، هو من حاول أن يميت الانقلاب، بتحويله إلى ثورة، أو مشروع ثورة، لكنّ العسكر وأدوا مشروع الثورة الناصريّ، وأعادوا "الانقلاب" إلى انقلابيّته، وطوّروه إلى فضاء انقلابيّ، يتشكّل من سلسلة من الانقلابات المستمرّة.
انقلب أنور السادات على الناصريّة، وانقلب حسني مبارك على الساداتيّة. لكنّهما لم ينقلبا على حكم العسكر، بل ظلا ضمن فضائه الانقلابيّ؛ وحين بدا أنّ الجيش تخلّى عن مبارك، في ثورة 25 يناير، فذلك لم يكن يعني أنّه تخلّص من غريزته الانقلابيّة، وتخلّى عن السلطة، بل سرعان ما تبيّن أنّ "الفضاء الانقلابيّ" الّذي طوّره السادات عن انقلاب الضبّاط الأحرار ما زال حيّاً وفاعلاً، بعد كلّ تلك السنين من رحيل السادات.
أدرك العسكر في مصر أنّ ثورة 25 يناير لا تستهدف مبارك وطاقمه، فقط، بل تستهدف "الفضاء الانقلابيّ" الّذي ظلّ نظام الحكم المصريّ يتحرّك داخله. كانت الثورة، إذاً، تريد إسقاط نظام العسكر الانقلابيّ، وهذا، في الحقيقة، ما دفعهم إلى الانقلاب على محمد مرسي، لا لأنّه ضعيف، ولا لأنّه عمل على "أخونة" الدولة، بل لأنّه كان ينتمي إلى فضاء آخر مضادّ لفضاء العسكر الانقلابيّ. ولذا، فإنّ انقلاب عبد الفتاح السيسي أيضاً لم يكن يهدف إلى إسقاط مرسي بذاته، بل إلى إسقاط الثورة وفضائها المضادّ. ومع أنّ بعض مؤيّدي السيسي يربطون، بشكل مثير للسخرية، بينه وبين عبد الناصر، إلّا أنّه، في الحقيقة، أكثر شبهاً بالسادات، ليس فقط في صفاته الشخصيّة، بل في انقلابه على مشروع ثورة 25 يناير، الشبيه بانقلاب السادات على مشروع ثورة عبد الناصر. وكما فعل السادات، في بدايته، حين حاول أن يظهر منقذاً من ضلال عبد الناصر الذي جاء به، كذلك فعل السيسي حين حاول أن يظهر منقذاً من ضلال مرسي الذي جاء به. وإذا كان صحيحاً أنّ التاريخ يعيد نفسه، فإنّ ذلك يعني أنّ مصر ستشهد عودة "الساداتيّة" الّتي أسّست لكلّ هذا الخراب الراهن.
إنّ لكلّ مشروع ثوريّ انقلاباً ينتظره عند أوّل منعطف. ولذا، فإنّ الثورات المطمئنّة، التي لا تملك ما يكفي من المكر لتنجو، لن تستطيع أن تتجاوز منعطفها الأوّل. أطاحت الانقلابات العسكريّة، التي دبّرتها كلّها الاستخبارات الأميركيّة، كلّ من حملهم إلى السلطة مشروع ثوريّ، وبالأسلوب ذاته: ذلك ما حدث مع محمّد مصدّق الإيرانيّ، وعدنان مندريس التركيّ، وجاكوبو آربينز الغواتيماليّ، وباتريس لومومبا الكونغوليّ، وجواو جولارت البرازيليّ، وسلفادور ألليندي التشيليّ.
كشفت الاستخبارات الأميركيّة عن تفاصيل العمليّة TPAJAX الّتي أطاحت مصدّق، عام 1953، في انقلاب عسكريّ: تقويض شعبيّة مصدّق عن طريق الدعاية السلبيّة، وتحشيد أصدقاء نظام الشاه القدامى، ورشوة قادة في الأمن وتسليحهم، والعمل على حشد المظاهرات الشعبيّة ضدّ مصدّق.
عجبًا!! أما زال الانقلابيّون، حتى يوم الناس هذا، يعتمدون الوصفة الأميركيّة القديمة ذاتها؟ 
                  
3EB1E10F-A857-4544-8A47-AF6FE85B9960
زهير أبو شايب

شاعر وكاتب من فلسطين. مواليد 1958، له من المجموعات الشعرية "دفتر الأحوال والمقامات" و"ظل الليل"، و"سيرة العشب"، وغيرها. ومن الكتب "ثمرة الجوز القاسية". فاز بجائزة مؤسسة محمود درويش.