السيسي والهروب غرباً

السيسي والهروب غرباً

27 يونيو 2020
+ الخط -
في برنامج تلفزيوني سياسي ساخر، خرج المقدّم يُعلم المشاهدين بلهجةٍ حربية حشد جمهورية مصر العربية قوات النخبة في جيشها، ووضعها في أعلى مستوى من الجاهزية القتالية، مضيفاً أن هذا الحشد الهائل يهدف غالباً، ومنطقياً، إلى التوجّه نحو الحدود مع القطر السوداني الشقيق لدعمه في سبيل تشكيل جبهة ضغط موحدة ضد إثيوبيا التي تُهدّد الأمن المائي والغذائي للدولتين العربيتين، مصر والسودان، من خلال مشروعها الضخم الذي سيبدأ استثماره قريباً جداً بالبدء بملء بحيرة سد النهضة على نهر النيل الذي يعبر البلدان الثلاثة. وفجأة، وبحركة تمثيلية، يتوقف المقدّم عن الكلام، ليعتذر من المشاهدين عن الخطأ الذي ارتكبه في الاجتهاد بتفسير أسباب الحشد، معتبراً أنه كان، وبالنظر إلى التوتر الهائل في ملف سد النهضة، يظن أن العمل العسكري المصري، أو في أقلّه، الاستعراض العسكري المصري، موجّه إلى إثيوبيا، وإذ به يكتشف أن حشد القوات هذا منوطٌ به التوجه نحو الحدود الليبية، وذلك من أجل إخافة من تسوّل له نفسه في القطر الليبي الشقيق بأن يقف في وجه حلف المصالح المستجدة بين الإمارات وروسيا وفرنسا ومصر الهادف إلى تنصيب عسكري في حكم ليبيا كآخر مسمار في نعش الثورة الليبية والعودة الى عهدها بالاستبداد و"الاستقرار والأمان". 
الوضع الداخلي المصري متأزّم للغاية، تقوده "نخبةٌ" عسكرية حاكمة للأخضر ولليابس، وهو منهكٌ بنيوياً بأزمة اقتصادية حادّة تتشعّب بين فساد عريق التجربة والاستدامة، وإدارة عامة منهارة، وقضاء سياسي بامتياز، وقمع ممنهج لكل الأصوات المعارضة سياسياً، وحرب فاشلة على الإرهاب تودي بحياة عشرات من خيرة شبان الجيش المصري، في حين يزرع قادته البندورة أو يطبخون أصابع الكفتة لعلاج الأمراض المستعصية. في ظل هذه اللوحة القاتمة، 
يواجه المصريون أزمة سد النهضة، المترافقة مع انتشار رهيب لوباء كورونا، فبعد لجوء الإعلام الرسمي والخاص، وهو يعيش حقبة انحطاط لا مثيل لها في معالجة مختلف الملفات، إلى استخدام الخفّة بالتعامل مع الوباء ومخاطره، إضافة إلى اللجوء إلى التبجّح الرسمي المعتاد بادّعاء مساعدة دول متضرّرة، إلى درجة ادّعاء المساهمة المصرية في إنقاذ حيوات الإيطاليين، تبين بجلاء الفشل الكامل للنظام الصحي المصري بعامّه وبخاصه، وانتشار الفساد الذي نخر كل المؤسسات المصرية. كما تبيّن كذب أجهزة الإعلام التي حاولت، في البداية، التخفيف من خطورة الوباء، إلى درجة دعوة الناس إلى عدم الالتزام بأية قيود في حياتهم الاعتيادية، فقد أظهرت أرقام الإصابات المتصاعدة انتشاراً هائلاً للوباء، وعجزاً عن مواجهته طبياً.
إضافة إلى الوباء الصحي الذي أتى ليُفاقم الوضع الاقتصادي المنهار، سجّل رجل مصر في ليبيا، الضابط خليفة حفتر، الهزيمة تلو الهزيمة، على الرغم من السلاح المصري والمال الإماراتي والمرتزقة الروس والمليشيات السلفية التي هي على يمين تنظيم الدولة الإسلامية، ولكنها مدعومة سعودياً، فيمكن القبول بها إماراتياً وفرنسياً، في تناقض واضح مع ما يتمسك به البلدان من "مبادئ" معادية للإسلام السياسي. ولم تكن هزائم حفتر وحلفائه لتتحقق لولا أن دخلت تركيا على خط دعم قوات حكومة الوفاق الليبية في طرابلس عبر الطيران المسيّر الفعال، ومن خلال استقدام مرتزقة من المقاتلين السوريين الباحثين عن لقمة العيش. وعلى الرغم من ظهور موقف مصري ممتعض من تفرّد حفتر في اتخاذ القرارات من دون الرجوع إليها، وهي المعنية المباشرة بالثورة المضادة في ليبيا، بدعم من أبوظبي وسكوت شريك من بعض الدول الغربية، في مقدمتها فرنسا.
وقد سجلت الساعات الأخيرة، إضافة إلى الحشود العسكرية، تصريحات نارية إعلامية، توّجت بتهديدات واضحة من الرئيس الانقلابي عبد الفتاح السيسي بالتدخل العسكري المصري المباشر، إن استمر تقدّم قوات الجيش الليبي واندحار قوات الضابط حفتر باتجاه الشرق. ولقد تم تسجيل كل هذا الخطاب "الحربي" في خانة الرغبة المصرية الرسمية في إيجاد بؤرة توتر وانفجاراتٍ لا مانع من أن تحصد حيوات الشباب المصري، بغرض إزاحة عيون الاهتمام المحلي عن المصائب الذاتية.
اندحار جزئي للحليف الليبي، يُرافقه موقف أوروبي متراجع نسبياً عن الدعم غير المشروط لنظام 
السيسي، يُضاف إلى تسجيل خسائر مستمرة في الحرب على الإرهاب في سيناء، وعودة حديث إيطاليا عن ضرورة محاسبة خاطفي الباحث الشاب ريجيني وقتلته من الأجهزة الأمنية المصرية، والتطور السلبي لقضية سد النهضة التي تعاملت معها الدبلوماسية المصرية بخفّة مدهشة. هي إذا جزء من لائحة عوامل تدفع الرئيس الانقلابي إلى وضع خطوط حمراء يعرف أنه غير مؤهل لفرض احترامها، إلا إذا فتح حرباً لا هوادة فيها، ليس فقط مع قبائل الغرب الليبي، بل خصوصاً مع عدوّه الإقليمي التركي الذي سيستعيض عن خسارته الفعلية الملف السوري أمام الروس بمقايضتهم بفرض هيمنته على جزء مهم من ليبيا، والدخول في مفاوضات سياسية يكون فيها هو ومن يمثله الطرف الأقوى.
وعلى الرغم من اللهجة التهديدية للسيسي، فجميع من دعم حفتر من قوى إقليمية ودولية، ولامتصاص صدمة الهزيمة الجزئية، يتناقضون مع مواقفهم النارية المسبقة، ويدعون إلى الرجوع إلى الحوار السياسي وتطبيق اتفاقية الصخيرات التي وقعتها الأطراف الليبية الرئيسية. ولكن حكومة الوفاق، وبالاستناد إلى تحالفها مع "الجوكر" التركي، ربما ستسعى إلى استمرار التقدم باتجاه الشرق، على أمل تعزيز شروط الحوار السياسي الذي سيكون السبيل الوحيد لوقف القتال.