السيد ياسين أقطاي والسيدة "عائشة"

السيد ياسين أقطاي والسيدة "عائشة"

09 اغسطس 2019
+ الخط -
يستطيع أي متابع للشأن التركي القول إن السيد ياسين أقطاي مستشار رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم هو من أكثر الشخصيات تهذيباً في الساحة السياسية التركية، فالقراء العرب يعرفونه جيداً بحكم إتقانه للغة الضاد التي يتكلمها بلكنته المحببة، أما قراء التركية فبوسعهم تمييز اتزان تصريحات الرجل في وسط سياسي بالغ الاستقطاب يتبادل فيه السياسيون الاتهامات بالخيانة لأتفه الأسباب.

وفي المسألة السورية التي أصبحت في غفلة من حزب العدالة مالئة الدنيا وشاغلة الناس في تركيا، حاول السيد أقطاي إيضاح موقف حكومته في عدة إطلالات عبر وسائل إعلام عربية مختلفة خصوصاً بعد حملة ترحيل السوريين من إسطنبول والتي تقول الرواية الرسمية التركية إنها تستهدف "المخالفين" منهم فقط.

أما وصف المسألة فليس في هذا المقال متسع له، فالقوانين التي يقال إن الترحيل يستهدف مخالفيها فقط توضع- للأسف- في كل عالمنا الثالث بحيث تكون مستحيلة التطبيق فيُغض النظر عن انتهاكها لتُفَعَّل حين المصلحة أو حين زوالها. لكننا سنحاول من خلال النظر في تصريحات السيد أقطاي حول هذه المسألة وضع اليد على جذر الرواية التي تبناها الحزب الحاكم عند تقديمه السوريين للرأي العام التركي وكيف ساهم هذا الجذر "العاطفي" في ما وصلت إليه الأمور من سوء.

أقر السيد ياسين أقطاي في مقاله الأخير بأن حجم التعليقات العنصرية التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي التركية في ما يتعلق بالسوريين كاد يصيبه باليأس من "وجود الرحمة الإنسانية"، وللسيد ياسين أقطاي أن يتخيل كيف يستقبل السوريون أنفسهم هذه التعليقات والتي تتهمهم يومياً في شرفهم وشجاعتهم وأمانتهم وإخلاصهم لوطنهم ويطالب بعضها بطردهم بل يتشفى آخرون بقتلهم من قبل الأسد وروسيا وإيران!

جاء مقال السيد ياسين أقطاي الأخير عاطفياً زاخراً بالدموع، تحدث فيه عن السيدة التركية "عائشة" التي اتصلت به تطلب شفاعة لجارها اللاجئ السوري المصاب والمهدد بالترحيل لأنه من "المخالفين" بحسب القانون.

تفاصيل القصة التي يمكن للقارئ الكريم الاطلاع عليها في مقال السيد ياسين أقطاي الأصلي، تصلح حقيقة لبناء مشهد درامي يفيض بالمشاعر الإنسانية النبيلة النادرة، وكنت منذ فترة قد قرأت خبراً شبيهاً عن بعض المواطنين الألمان الذين حاولوا إعاقة عمل الشرطة أثناء محاولتها ترحيل أحد اللاجئين. وقتها قلت لنفسي: رباه! هذه ألمانيا التي صدرت العنصرية للعالم منذ أقل من قرن، لا يجمعنا معهم لا دين ولا لغة ولا عرق ولا لون! هل يعقل أن يحدث مثل هذا في ألمانيا ولا يحدث في تركيا التي يجمع السوريين معها كلُّ شيء؟

لكنني تذكرت أن أنجيلا ميركل- البروتستانتية المحافظة- والتي راهنت بمستقبلها السياسي بعد استقبال اللاجئين لم تقل لمواطنيها إنها تتمثل موقف النجاشي المسيحي عندما استقبل أسلاف المسلمين المظلومين الهاربين من بطش قريش، كما إن الإعلام الذي يتبنى خطها السياسي حاول بالإضافة إلى تعليل مسألة اللاجئين بربطها بحقوق الإنسان شرح الفوائد البعيدة المدى للاجئين على سوق العمل وحاجة البلاد إلى الأيدي العاملة الشابة وأصحاب المهن وغير ذلك من إبراز الجانب المصلحي لمسألة اللاجئين مهما كان ضئيلاً في الحالة الألمانية.

أما في تركيا يا سيد أقطاي فلا السوريون مهاجرون ولا الأتراك أنصار كما روج حزبكم منذ اليوم الأول. السوريون بلغة العصر "لاجئون" وبلغة القرن الأول الهجري الذي تستعملون مصطلحاته "طالبو جوار" فروا من أكبر مجرم في هذا القرن وابتغوا الحماية أينما وجدوها من نظام لم تستطع حتى الدولة التركية بعظمتها إيقافه عند حده.

البشر- للأسف- يا سيد أقطاي يهتمون بجيوبهم أكثر من مبادئهم، قد يتعاطفون لعدة أسابيع أو شهور، ولكنهم في النهاية سيتبرمون ويملون وخصوصاً إذا وجدت حملات كذب وتضليل تعلمون جيداً أنها تستهدف ترسيم اللاجئين للسوريين خطراً وجودياً على تركيا.

بالمقابل، فأنتم يا سيد أقطاي لم تستعملوا الرواية الصادقة حول وجوب دعم السوريين في نضالهم ضد الأسد وحماية لاجئيهم في تركيا، أنتم لم تظهروا للرأي العام الرواية الحقيقية والتي كان بإمكانكم بواسطتها إخراس أكثر القومجيين تطرفاً والذين يتهمون كل سوري اليوم بأنه مشروع لص أو مغتصب أو قاتل أو سارق!

لم يبذل الإعلام الموالي لحزب العدالة والتنمية أي مجهود لتعريف الرأي العام التركي بالعلاقة الحقيقية بين نظام الأسد وبين حزب العمال الكردستاني، وحتى تاريخ اليوم قلة فقط من المواطنين الأتراك تعلم بأن الأسد الأب هو من بدأ منذ عشرات السنين إرسال المقاتلين والعبوات والمفخخات لينشروا الموت في شوارع المدن والحواضر التركية. لم يلفت أحد نظر المواطنين الأتراك إلى أن هؤلاء السوريين الذين تتهمونهم يومياً بالخيانة والجبن يقاتلون لوحدهم النظام الذي دعم أكبر القتلة والمجرمين في تاريخ الجمهورية التركية منذ حروب الاستقلال، وأنهم يصدون بلحومهم التي تشوى على الهواء مباشرة هجمة المحور الإيراني الأسدي والذي لن يوفر تركيا أبداً فيما لو انتصر واستتب له حكم العواصم التي يحتلها اليوم.

ليس لدى كل لاجئ سوري في تركيا- يا سيد أقطاي - سيدة "عائشة" نبيلة وكريمة تجاوره وتدافع عنه، فيما لو تعرض للظلم. السوري في أحد معاني لقبه هو "السيد"، هو يحتاج فقط من جيرانه وإخوانه بعض التواضع والتخلي عن ذهنية "الأخ الأكبر"، وسيأتي اليوم الذي سيعلم فيه كل الإقليم أن هذا السوري المدفوع بالأبواب حالياً هو الوحيد القادر على إنقاذ هذه الجغرافيا من فوعة إيران وعلو بني إسرائيل فيما لو أُعطي قدره، أو سيندم الجميع ولات حين مندم.

FBFC7B8C-CEE9-496B-BACF-FB73D1B87B75
إسماعيل حاج إسماعيل

خريج كلية الصيدلة جامعة حمص. مقيم في تركيا. مهتم بالشأن السوري والتركي