السياسة في تونس بين البراغماتية والتصوّف

السياسة في تونس بين البراغماتية والتصوّف

13 يناير 2020
+ الخط -
المثال التونسي في الممارسة السياسية محيّر ومثير، إذ ننتقل معه دفعة واحدة من مجتمعٍ منسحبٍ في أغلبه من الحياة العامّة قبل الثورة إلى حراكٍ سياسيٍّ مذهل في نسق تحوّله، وعجيب في قدرته على التسوية والتفاوض. يقوم هذا المجتمع بقفزاتٍ مذهلةٍ كلّما ضاقت به السّبل واشتدّ الخلاف، كأن تتكوّن حكومة سنة 2014 من يمينٍ محافظ ذي مرجعية إسلاميّة من جهة، وخلطة عجيبة من حداثيّين وعلمانيين ويساريين من جهة ثانية (حزب نداء تونس)، ويُنتخب رئيس، في سياق ثوريّ، آتٍ من عهد البايات ويجعلونه زعيما محبوباً، كما هو الحال مع المرحوم الباجي قايد السّبسي. وها هم ينتخبون قبل أشهر رئيسا جديدا على طرفي نقيض مع من سبقه.
والمثير في هذا المثال أيضا أنّه كلّما شارفت النّخب السّياسيّة على الوقوف عند زنقةٍ حادّةٍ، إلاّ وتُفاجئنا هذه النّخب بإقامة تحالفاتٍ بين قوى يفترض أنّها على الطّرف الأقصى من بعضها بعضا. وها إنّ تسويات جديدة وتحالفات أخرى تجتمع اليوم لتُسقط حكومة حركة النهضة عبر البرلمان الذي يترأسه زعيم هذه الحركة. والمثير أنّ الحكومة القادمة، بتحالفاتها، قد يكون محرّكها الأساسي من كان يُنعت منذ أشهر "المفيوزي"، فيكون الإجماع على الحكومة مع من كان موضع إساءة يوميّة من الخاصة والعامّة. هذه المفارقات وهذه التسويات وهذا الانبثاق كلّ مرّة من تحت الأنقاض، أراه ساكنا في رحم الأسطورة. كيف ذلك؟
نعلم أنّ القادح الأوّل في الثورة التونسيّة هو تأويل الاحتراق بالاحتقار: شابّ يحرق نفسه أمام
 انسداد الأفق في منطقة مهمّشةٍ ومقصيّةٍ، فينتفض مجتمع بأسره دفعة واحدة، كأنّ باحتراق الجسد في النّار وبها، ستُخلَقُ حياة جديدة. وأشعر أنّ ثّمة لا وعي تاريخي في هذا القادح، إذ يبدو متجانسا في رمزية أحداثه، مع انتفاضة طائر الفينيق الصّغير. تقول الأسطورة إنّ طائر الفينيق سئم طول الحياة، فطلب الموت غربا، فحلّق فوق الأدغال حتّى بلغ شواطئ فينيقيا (تونس اليوم)، فحطّ في عبّ شجرة بنى فيها عشّه، وراح ينتظر بزوغ فجرٍ جديدٍ يؤذن بموته. وعند شروق الشّمس، بدأ يُنشد لإله الشّمس، فجاء الإله على عربيةٍ تقودها أحصنةٌ، ولمّا نهزها انطلقت بالعربة، ففرّت من حوافرها شرارةٌ أصابت عشّ الطائر فاحترق. وفي الغد، يخرج من رماده طائر فينيق صغير. كأنّ بالنّار مطهّرة ومخلّصة وباعثة من جديد لحياة مختلفة، ولم يكن القادح سوى شرارة من حافر حصان أنهت حياة لتولد حياة جديدة. وها إنّ القادح، لإحداث تحوّل في المجتمع التونسي، والعربي كذلك، ليس سوى شرارةٍ أفحمت جسم شاب، فانتفض شعبٌ ليعيد إلى نفسه الحياة. هكذا يبدو هذا المجتمع في تحوّلاته الأخيرة، كلّما ضاقت به السّبل وتفرّقت، إلاّ وكان الخلاص حتّى من عنق زجاجة.
هكذا هي السّياسة بمعناها العملي في المثال التونسي، وفي وجهٍ من وجوهها، بحث عن الحلول في المطبّات حتّى بطريقة القفز، وكفاءة في الفعل بمقتضى الحال. ليست هذه الكفاءة قليلةً في النّخب التّونسيّة، لكنّنا مع ذلك نشهد بعض الانكماش لدى بعض السّياسيين، خصوصا في أعلى هرم السّلطة، حيث نلحظ ممارسة سياسيّةً موسومةً ببعض التصوّف والزّهد باسم النّظافة والطُّهر. على أنّ السّياسة العمليّة بما فيها من عقل لا تعني التنازل عن جانبيها الأخلاقي والاجتماعي، بل تشير إلى عقلنة الفعل تعلّقا بالتقدّم. لذلك، ولتغيير الحياة يجب البدء بتغيير 
الحياة السّياسيّة وعقلنتها وربطها بالمشروع الوطني التقدّمي، ومن دون استثمار غير مجدٍ في الزّهد باسم الثّورة.
هذا ما يريد أن يبيّنه المقال: كيف تجمع الممارسة السياسيّة في تونس بين النّقاء والزّهد (رئيس يرفض أن يسكن القصر) من جهة، وسلوك "البلياتشو" في السّياسة بما فيها من مهارات وقفزات فائقة وخطرة، ولكنّها تؤتي أكلها في الغالب على طريقة طائر الفينيق، وما فيه من إخراج الحيّ من الميّت. وثمّة هذا وثمّة ذاك في هذا المشهد السّياسي: مفارقات مثيرة، منها براغماتية مفرطة في حساباتها السّياسيّة، ومنها أيضا، وعلى نحو مقابل، إظهار حالةٍ من النقاء السياسي لدى بعض القادة، تتداخل مع وضعيةٍ من المزايدات باسم الثّورة، خاليّة من أيّ مقاربة عقلانيّة، من قبيل الاكتفاء بشعار "الشّعب يريد ويعرف ما يرد". وكثيرا ما تسمع في الشّارع التونسي عباراتٍ من قبيل "هؤلاء السياسيون يخافون الله"، فننتقل دفعة واحدة من حقل دلالي براغماتي يحتوي مفرداتٍ مرتبطة بالمنفعة والفائدة، إلى حقل دلالي يدّعي الطهورية من قبيل: نظيف، يخاف الله، يعرف ربّي، متواضع. كيف يمكن أن نفهم هذه النّزعة "المتصوّفة" في حقلٍ من الفعل يُفترض أنّه يقوم على البراغما (Pragma)؟ السياسة تشير إلى "فنّ الممكن"، 
والتصوّف مشتقّ من الصّوف، بما في ذلك من زهد في الدّنيا وأهوائها. الرئيس التونسي قيس سعيّد يمكن أن يكون نمطا مثاليا لهذا الغموض وهذه المفارقة. يقول عن نفسه إنّه ابتُلِيَ بالسياسة وهو زاهد فيها، ولا يرغب في أن يسكن قصر قرطاج، بل يصرّ على أن يخرج موكبه يوميا من بيته في أحد الأحياء الشّعبيّة متّجها إلى القصر. وقد تكون هذه الطهرانيّة في السّياسة وظيفية في كسب أصوات "العامّة" وتعاطفهم في الانتخابات، ولكن قد تدور على غير أهدافها عند المحكّ، عندها تكون خيبة الأمل كبيرة. لماذا؟ لأنّ شريحةً مهمةً من الشّباب المتعطّش للتّغيير رأوا فيه صورة الزّعيم والمنقذ، ووضعوا فيه كلّ أحلامهم من دون التّفكير في إكراهات الواقع وضغوطه لرجلٍ من عامّة النّاس، لم يسبق له أن عرف السّياسة ونحوها وصرفها. والسّياسة في أحد تعريفاتها "تدبير الواقع بحسب الممكن"، وتحويل الخطاب إلى مشروع وإلى برنامج عمل، في حين أنّ هذا الرئيس لا برنامج له غير زهده الظّاهر و"نظافته" وشعار يردّده بأشكال مختلفة: "الشّعب يريد، وسيخلق بنفسه آليات لتحقيق هذه الإرادة". ولا أعتقد أن هذا الخطاب سيستمرّ إذا لم ينتبه إلى الجانب العملي في السياسي، وينتبه إلى أنّ الكلمةَ في الخطاب السّياسي فعلٌ، كقوله مثلا أخيرا إن الدّستور هو ما خطّه الشّباب على الجدران، فهل هي مجرّد بلاغة، أم يمكن أن تتحوّل كتابة الجدران إلى دستور؟
براغماتيّة معتدلة تجمع بين النجاعة والأخلاق هي الأنسب لتونس اليوم والأكثر فعالية. ونعرف منذ هيغل أنّ كلّ ما هو عقلانيّ هو واقعي، وأنّ ما هو واقعي هو عقلانيّ، ولعلّ العكس صحيح، على معنى أنّ ما هو غير عقلانيّ لا يُنَشّط في الواقع. ونعرف أيضا مع ألكسيس دي توكفيل، وبنوعٍ من النّسبيّة، أنّه "لا يمكننا النّجاح في شيء من دون أن يتلبّسنا الشّيطان جسدا". والمعنى هنا أّنّ السّياسة لُعبة تمكّنٍ وذكاءٍ وقدرة. إنّها صنعة إدارة الممكن لبلوغ أفضل النتائج، وليس للزّهد في ذلك من نصيب. ومع ذلك، للزّهد، أحيانا، بعد وظيفيّ يتماشى مع خطاب مقاومة الفساد.

دلالات

FE664C9B-6023-4118-BC58-BB17401CFF73
FE664C9B-6023-4118-BC58-BB17401CFF73
محسن بوعزيزي
محسن بوعزيزي