السياسة الخارجية للبنان... من سورية إلى الطوائف

السياسة الخارجية للبنان... من سورية إلى الطوائف

03 أكتوبر 2014
باسيل والشهرستاني في بغداد (getty)
+ الخط -
سيُكتب الكثير عن الفيديو ــ الإهانة، الذي انتشر لوزير الخارجية اللبنانيّ جبران باسيل من نيويورك. يظهر باسيل في الفيديو وهو جالس، فيما يقف مقابله وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، ويسأل عن الدبلوماسية اللبنانيّة كارولينا؛ يُشير باسيل لنظيره الإماراتي بحركات اليد والوجه، بأن كارولينا امرأة جميلة. فلنسكت هنا.
أسوأ ما هو متعلّق بهذا الفيديو، أن الجمعيات النسائيّة في لبنان، لم تخرج حتى كتابة هذه السطور، ببيان إدانة لما قام به باسيل وطلبت منه الاعتذار. تُعد هذه الحادثة، التي وضعها باسيل في مؤتمره الصحافي الذي عقده في مطار بيروت الدولي عند عودته من نيويورك في إطار فخره بدور المرأة ــ الدبلوماسية اللبنانية، تتويجاً للأزمة التي تعيشها السياسة الخارجية اللبنانيّة منذ انتهاء الحرب الأهليّة عام 1990 حتى اليوم. فقد تناوب على الوزارة 14 وزيراً منذ انتهاء الحرب لليوم الحالي.

مرحلة الوصاية السورية

عند العودة إلى أرشيف مرحلة 1990 ــ 2005، لا يُمكن معرفة الخط الفاصل بين السياسة الخارجية اللبنانيّة، والسياسة الخارجيّة السورية. فمنذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، خرج شعار "وحدة المسار والمصير" ليبقى هذا الحاكم الأبرز للسياسة الخارجية للبنان.
ويُعد هذا الأمر نتيجة طبيعيّة لمرحلة ما بعد الحرب الأهلية، التي افتتحت بإقرار اتفاق الطائف، الذي عدّل الدستور اللبناني. فالمشاركة السورية في التحالف الدولي لتحرير الكويت من الجيش العراقي، أعاد سورية إلى مسرح السياسة الدوليّة، بعد عزلة امتدت لسنوات بسبب رفضها دعم العراق في حربه ضد إيران عام 1980. ومن نتائج هذا التحالف، الإقرار الأميركي ــ السعودي لسورية بإدارة الملف اللبناني كاملاً، من الأمن إلى السياسة الداخلية والخارجيّة، مع وجود رجل السعودية الأول، الرئيس رفيق الحريري في رئاسة الحكومة.
لا يجد الباحث عن السياسة الخارجية للبنان في مرحلة الوجود السوري ما يدل على وجود سياسةٍ لبنانيةٍ مستقلّة أصلاً، وقد يكون الارتباك اللبناني تجاه العرض العراقي بالمساعدة بتشغيل مصفاة نفط طرابلس وبيع لبنان نفطاً بأسعار أرخص من السعر العالمي، على أن يدفع لبنان مقابلها منتجات زراعية وصناعيّة، أبرز دليل على هذا الأمر.
يقول فارس بويز، وزير الخارجية لتسع سنوات خلال عهد الوصاية السورية، لـ"العربي الجديد"، إن شعار "وحدة المسار والمصير" ارتبط بمؤتمر مدريد، والرغبة بأن يكون السلام شاملاً. ويشير إلى أن لبنان عام 1990، كان مدمراً، ولا وجود لدولة وجيش وأمن ومؤسسات، وكان محكوماً من قبل الميليشيات، "وبكلّ بساطة لم يكن هناك سوى سورية مستعدة للمساعدة في بناء الدولة". يلفت بويز إلى أن سورية "ليست مؤسسة خيرية، وقد حاول الحكم اللبناني حينها أن يأخذ قدر الإمكان ويُعطي أقل ما يُمكن". ويُضيف أن "العالم كلّه قد لزّم لبنان إلى سورية وعلى رأسه الولايات المتحدة والدول العربية وطلب منه ضبطها ومنع تفشي الإرهاب".
ويُعطي مثالاً على هذا التلزيم: "زرت واشنطن في منتصف التسعينيات، والتقيت الرئيس الأميركي بيل كلينتون ووزير خارجيته وارن كريستوفر، وقلت إن الحكومة اللبنانية تريد انسحاب الجيش الإسرائيلي ومن ثم الاستغناء عن الوجود السوري لتمارس سيادتها بقوتها الذاتية". ويُضيف أن الأميركيين قالوا للسوريين: "لبنان لا يُريدكم ويشتكي عليكم عندنا".
يؤكّد بويز أن أحداً في سورية لم يضغط عليه أو يطلب منه شيئاً، "لكن كان لدينا وحدة الموقف، وكان الرئيس حافظ الأسد يثق بي ويعرف أنني لا أطعن سورية في الظهر ولا أخونها".

ما بعد عام 2005

خرج الجيش السوري من لبنان في أبريل/نيسان من عام 2005؛ فشل اللبنانيّون بعد هذا الخروج، في إيجاد حدّ أدنى من التوافق السياسي يسمح بإدارة النظام السياسي. عاش هذا النظام سلسلة من الأزمات الحادة المتتالية. من تظاهرات فريقي الثامن والرابع عشر من آذار، إلى الاختلاف حول الحرب الإسرائيليّة على لبنان عام 2006. ثم الفراغ في رئاسة الجمهوريّة الذي لم ينتهِ إلا بعد أحداث السابع من مايو/أيار 2008 عندما تحرّك حزب الله عسكرياً في بيروت. وتلاه التأخير لأشهر في عملية تأليف الحكومات، والفشل في إجراء انتخابات نيابية وتمديد ولاية مجلس النواب مرة أولى عام 2013، والتمهيد لتمديد ثانٍ؛ كذلك الأمر الفشل في انتخاب رئيس الجمهورية منذ مايو/أيار 2013، وصولاً إلى عدم قدرة الحكومة على تصحيح الامتحانات الرسمية والاستعاضة عنها بإفادة نجاح لجميع الطلاب.
في ظلّ هذا الفشل الذي تعيشه الإدارة اللبنانيّة، لم يكن حال وزارة الخارجية أفضل. تحوّل وزير الخارجيّة منذ أن تولّى الوزير فوزي صلوخ الوزارة عام 2005 إلى ممثل لطائفته وفي أحسن الأحوال لفريقه السياسي في العلاقات الخارجيّة، وليس ممثلاً للبنان.
واقع يقول عنه بويز إن "كل ما تم بناؤه ببطء خلال خمسة عشر عاماً، انهار عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بفعل الاصطفاف المذهبي الحاد". ويرى بويز أن لبنان بات يعيش ضمن اصطفافين يتم دعمهما من قوى خارجية بالمال والأمن والسياسة: "الأول أميركي ــ خليجي، والثاني سوري ــ إيراني، وبالتالي فقد لبنان كل حرية الحركة".

سياسة النأي بالنفس

ومع انطلاق الثورة السورية، اخترعت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مصطلحاً جديداً في عالم الدبلوماسية، وهو سياسة "النأي بالنفس" كعنوان لـ"لاقرار" عملياً، إذ لا يعني "النأي" الحياد، ولا الانحياز... هو ببساطة "لاموقف" من أهم حدث يؤثر على لبنان، مع جاره الوحيد، أي سورية. وكان لافتاً في حينها تساؤل رئيس الحكومة القطرية، وزير الخارجية، حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، علناً عما يعنيه مصطلح "النأي بالنفس"، بين الامتناع عن التصويت، أو الرفض... أو ماذا بالتحديد، وذلك على هامش اجتماعات دول الجامعة العربية التي قررت إخراج سورية من صفوفها. وتلا هذا الأمر إعلان بعبدا الصادر عن الحوار الوطني الذي دعا إلى تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، وعدم تحويل لبنان إلى ممر للمسلحين والسلاح إلى سورية.
لكن الحكومة لم تنجح بترجمة هذه السياسة، خصوصاً مع تبني وزير الخارجية عدنان منصور الموقف السوري خصوصاً في اجتماعات جامعة الدول العربية، وانتقال المسلحين والسلاح من لبنان إلى سورية، وعلى رأسهم مقاتلي حزب الله الذين يتحولون إلى العمود الفقري لصمود النظام السوري، وهو ما أعلنه أمين عام حزب الله حسن نصر الله، الذي قال إن تدخل حزبه منع سقوط دمشق.
وقد طالب منصور جامعة الدول العربية إلى إعادة مقعد سورية إلى النظام عام 2013، يوم كانت جامعة الدول العربية تبحث تسليم مقعد سورية إلى الائتلاف المعارض، كما خاض معركة النظام حيث اشتدت التصريحات الأميركية المهددة بضربة عسكرية بعد المجزرة الكيماوية في الغوطة.
ومن الأمثلة الأخيرة على هذا الأمر ما جرى عام 2013، عندما رفض وزير الخارجية السابق عدنان منصور (من حصة الرئيس نبيه بري) طلب رئيس الجمهورية حينها، ميشال سليمان، تقديم شكوى إلى مجلس الأمن وجامعة الدول العربية ضد سورية "بسبب خرق سيادة لبنان وحرمة أراضيه وتعريض أمن المواطنين وسلامتهم للخطر بما يتعارض مع المعاهدات التي ترعى العلاقات بين البلدين والمواثيق الدولية"، وذلك نتيجة للقصف السوري لعدد من المناطق الحدودية اللبنانية. الأمر الذي دفع سليمان لطلب الأمر مباشرةً من سفير لبنان في الأمم المتحدة نواف سلام.
وفي مثل آخر، مشاركة وزير الخارجية الحالي جبران باسيل في مؤتمر جدة أخيراً الذي أطلق التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتوقيعه على البيان، ومن ثم تراجعه عن هذا الموقف لاحقاً. يُفسر بويز هذا الأمر بالارتباك الذي تعيشه السياسة الخارجية اللبنانية، والذي يعتقد أن أبرز أسبابه أن لبنان يدعم "محاربة الإرهاب لكن الآلية المعتمدة لا تناسبه إذ يستثني التحالف إيران".
يقول بويز في شرحه لآلية اتخاذ السياسة الخارجية، إن وزير الخارجية يقترحها، ثم يوافق عليها مجلس الوزراء مجتمعاً ثم يُنفذها الوزير. إذا اعتمدنا هذه السلسلة، نرى أن باسيل التقى وزير الخارجية السوري وليد المعلم، فيما الحكومة اللبنانية غير متفقة على التنسيق السياسي والأمني مع النظام السوري، وهي لم تتخذ أي قرار في هذا الإطار، بل إن الأمر مثار خلاف داخلي.
وفي مثال آخر، عندما قرر باسيل زيارة العراق في أغسطس/آب الحالي، في الوقت الذي كان وزير الخارجية حينها هوشيار زيباري معتكفاً بسبب رفضه لسياسة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، فالتقى باسيل وزير الخارجية بالوكالة حينها. بدت زيارته وكأنها في إطار الدعم للمالكي، رغم أن هدف الزيارة الضمني كان لعب دور "ممثل المسيحيين"، خصوصاً في ظلّ غياب رئيس الجمهورية اللبناني، وهو الرئيس المسيحي الوحيد في العالم العربي.
آخر ما جاء على لسان باسيل بعد عودته من نيويورك اعتباره أن "المساعدات للبنان تضر به لأنها تأتي إلى النازحين (السوريين) مباشرة مما يعزز ويضمن بقاءهم في لبنان"، في حين تُطالب الحكومة اللبنانيّة بمساعدات دولية فيما يخص اللجوء السوري.
هكذا تحولت السياسة الخارجية للبنان من "حصة سورية" إلى حصص الطوائف والأحزاب، مع غياب أي استراتيجية لهذه السياسة.