السوري هو الآخر
تعرض السوريون في لبنان، منذ أكثر من أربعة عقود، إلى شتى أنواع التعامل الذي يحط من قدرهم كبشر. ولم يكن هذا التعامل دائماً ذا صلة بالتدخل العسكري في الشؤون الداخلية اللبنانية. حتى قبل أن يدخل الجيش السوري في عام 1976 إلى لبنان، بناء على قرار عربي ولبناني ودولي، ليقوم بدور قوة الردع العربية، كان لبنان ملاذاً لعشرات آلاف العمال السوريين الذين وجدوا في هذا البلد فرصاً وفيرة للعمل.
نتذكّر تلك الحقبة، حين كان العمال السوريون يتخذون من الساحات العامة في المدن اللبنانية مراكز تجمع في الصباحات الباكرة، يحملون أدوات صالحة للأعمال الشاقة كافة، ينتظرون أرباب الأعمال بشاحناتهم الصغيرة، حيث ينتقي هؤلاء من يرونه صالحاً بدنياً للعمل. كان العامل السوري خارج أي ضمانات اجتماعية، ويرضى بأي عمل، وبأي أجر. وكم كان ذلك المشهد في الصباحات الباكرة مثيراً لإطلاق التعليقات الساخرة، لأن اللبناني، أو حتى الفلسطيني في لبنان، كان لا يقبل تلك الشروط للعمل.
بعد التدخل العسكري السوري في لبنان، كثيراً ما سمعنا نكاتاً ساخرة عن جنود سوريين تخلصوا من سلاحهم، ووقفوا في ساحات المدن، انتظاراً لفرص العمل. برزت في لبنان، في تلك الفترة، مشاعر الخوف، والاحتقار في الوقت نفسه، حيال السوريين. الخوف من قوة عسكرية مارست القتل والتدمير، واحتقارهوية هذه القوة التي كان أفرادها، إلى وقت قريب، مجرد عمال مياومين. وامتدت هذه النظرة تجاه السوري، الآخر، إلى حين تغير الواقع السياسي، وخرج الجيش السوري وأجهزته الأمنية من لبنان عام 2005، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
بعد الانسحاب السوري من لبنان، سادت موجة من الكراهية والانتقام بحق الجالية السورية في لبنان. والغريب أن الجماعات التي مارست أشكال الانتقام، وسلكت، في تلك الفترة، سلوكاً عنصرياً تجاه السوريين، ستكون هي نفسها التي ستعلن تضامنها مع النازحين السوريين اليوم.
بعد قيام الثورة السورية، والتفاؤل الشديد الذي أصاب كثيرين في سورية ولبنان بنجاحها وإسقاط النظام الذي يحمل له لبنانيون كثيرون تاريخاً من الكراهية، وجد هؤلاء في الثورة السورية أملاً للثأر لذواتهم المهانة، في عهد السيطرة العسكرية على لبنان.
وأستطيع أن أقول إن من أسباب تأييد هؤلاء للثورة السورية الانتقام من النظام السوري وقهره وبطشه في لبنان، وليس انتصاراً خالصاً لحراك الشعب السوري، وتطلعه نحو الحرية والقضاء على الاستبداد.
مع تدفق النازحين السوريين إلى لبنان، وما رافق ذلك من مشكلات اجتماعية وأمنية، تنجم عادة في حالات النزوح العظمى، باتت مشكلتهم وما نجم عنها من تعقيدات طبيعية، ككتلة كبيرة في بلد مضيف، مشكلةً لبنانيةً، أصابت الجميع، مؤيدين ومعارضين، وبمستويات مختلفة. فقد جعل وجود هذا العدد الهائل من السوريين في بلد صغير اللبنانيين، حتى المؤيدين للثورة، أسرى حيرة وقلق. ففي وقت يؤيدون فيه الثورة السورية لأسباب مختلفة، باتوا ينظرون إلى وجود النازحين السوريين عبئاً ثقيلاً، حتى لوحظ أن مثقفين ديمقراطيين متضامنين مع الشعب السوري أبدوا تأففهم من وجود أعداد كبيرة من زملائهم المثقفين والفنانيين السوريين في المقاهي والحانات الليلية، واعتبر بعضهم وجود هؤلاء احتلالاً ثقافياً سورياً من نوع جديد.
لم تكن العنصرية في لبنان تجاه السوريين ممنهجة، ولا شاملة جميع شرائح المجتمع اللبناني، بمعنى أن الدولة نفسها، كمؤسسة، لم تسن قوانين عنصرية، كالتي وضعتها تجاه الفلسطينيين. كما أن هذه العنصرية لم تكن مجرد سلوك اعتباطي وعفوي، بل عنصرية فرضتها طبيعة لبنان، البلد الصغير، المتميز والمتعدد الثقافات والطوائف، والذي يعاني بارانويا مزمنة في علاقاته مع الغرباء، في الداخل والخارج.