السوريون والعنصرية
المتجددة في لبنان

السوريون والعنصرية
المتجددة في لبنان

04 يونيو 2014

لبنانيون يطالبون في 2005 بخروج الجيش السوري (Getty)

+ الخط -
عادت إلى الاشتعال مجدداً جمرة العنصرية الخبيثة ضد اللاجئين السوريين في لبنان، والتي اعتقدنا أن نيرانها خبت. وقد تجرأ بعضهم على رفع لافتات إعلانية على الطرقات، تتضمن التخويف منهم، فيما ظهرت في الصحف حملة هاذية من الترهيب، تذكرنا بالحملة العنصرية ضد العمال السوريين بعد اغتيال رفيق الحريري في سنة 2005، ورافقتها أعمال منحطة، كالاعتداء عليهم في أماكن عملهم، وطردهم من منازلهم، وقتلهم في الشوارع، ورميهم من أعالي المباني التي يشتغلون فيها، وفي هذا الميدان لم تتورع صحف، "النهار" مثلاً، عن التهويل بأن لبنان سينهار، إذا تجاوز عدد اللاجئين المليون. 
حسناً، تجاوز عدد اللاجئين عتبة المليون، وها هو الاقتصاد اللبناني منتعش، والليرة ثابتة وقوية. مع ذلك، لا أحد يتراجع عن مناحته، ولو أظهرت الوقائع والأرقام فساد تهويلاته. والحقيقة أن هنالك مبالغة مقصودة في تضخيم أعداد اللاجئين، لا تخفى على النبيه قط، ولها غايات غير نبيلة على الإطلاق. وربما تجاوز عدد اللاجئين السوريين الذين تدفقوا على لبنان المليون حقاً، لكن النزاهة تقتضي أن نحدد، بالضبط، عدد الذين مازالوا في لبنان بالفعل، لأن نصف عدد هؤلاء اللاجئين، تقريباً، غادر لبنان على مراحل، إلى المهجر البعيد، وإلى دول الخليج العربي، أو عاد إلى سورية، ولا سيما إلى المناطق التي توقف القتال فيها جرّاء المصالحات. ومن علامات التضليل، أيضاً، القول إن الحكومة اللبنانية ما عادت لديها القدرة على الإنفاق على اللاجئين، بعدما خسرت المليارات بسببهم (راجع خطاب وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، في مؤتمر عدم الانحياز، الجزائر، 28 /5 /2014). وتبين، بوضوح تام، أن الحكومة اللبنانية لم تنفق أي قرش على هؤلاء البائسين، وهو واجبها في أي حال، بل المؤسسات الدولية هي التي تدفع للحكومة اللبنانية، ولجمعيات أهلية، معونات مالية، لتنفقها على اللاجئين، فيسرق القائمون على هذه المساعدات أكثر من نصفها.

فئات اللاجئين السوريين

ينقسم اللاجئون السوريون في لبنان إلى أربع فئات: الأثرياء الذين انتقلوا إلى لبنان منذ بداية الحوادث الدامية في سورية، ونقلوا إليه أموالهم وأعمالهم، واشتروا المنازل، وألحقوا أبناءهم بأفضل المدارس وأرقى الجامعات، ثم اتخذوا من بيروت محطة لهم في تنقلهم بين أوروبا والخليج العربي. وكان لهذه الفئة الفضل الأكبر في تعويم صناديق المصارف بالأموال التي قاربت ثمانية مليارات دولار. وأشاع هؤلاء موجة من الانتعاش المالي المفاجئ، حتى أن معظم الأعراس الباذخة اليوم في الفنادق الكبرى تكاد أن تكون حكراً على السوريين من هذه الفئة. أما أبناء الطبقة الوسطى السورية فهم الذين يملأون الشقق المفروشة والعادية، علاوة على المطاعم والمقاهي والمدارس الخاصة، ويحركون العجلة الاستهلاكية، ويصرفون مدخراتهم، ويتلقون الأموال من أبنائهم في دول الخليج العربي، وتصب هذه الأموال في المصارف اللبنانية.
ولولا هؤلاء لكانت الرياح تصفِّر في المدن اللبنانية، بعد استنكاف العرب عن المجيء إلى لبنان منذ سنة 2008 فصاعداً. وهناك الحرفيون والعمال الذين أبت كرامتهم أن يتحولوا إلى طالبي معونات، فعمدوا إلى استخدام مهاراتهم، ليعتاشوا من عرق جباههم وقوة عملهم. وهذه الفئة الحيوية جعلت تكلفة السلع والخدمات في لبنان أقل بكثير في ما لو جرى إحلال العمالة اللبنانية في محلها. وهذا أمر يقارب المحال، لأن أرباب العمل اللبنانيين هم الذين يرفضون ذلك، لكي يستمروا في امتصاص نحو أربعة مليارات دولار سنوياً من عرق العمال السوريين، وهو الفارق بين تكلفة عمل السوريين وتكلفة عمل اللبنانيين. وأخيراً فئة النازحين المعدمين، وهؤلاء هم باب الرزق للجمعيات والمؤسسات التي نبتت كالفطر في السنوات الثلاث الأخيرة، والتي لا همَّ لها إلا استحلاب المساعدات الدولية باسم النازحين السوريين، ثم الاستيلاء على أكثر من نصفها، بلا أي وازع أو خُلُق.

السوريون وراء الازدهار
خلافاً لتحليلات وآراء كثيرة، ترك النزوح السوري إلى لبنان آثاراً إيجابية على الاقتصاد اللبناني (وعلى الحياة الثقافية والفنية، أيضاً، ولا سيما في الدراما والمسرح والفن التشكيلي)؛ فقد ازدادت الودائع المصرفية زيادة هائلة (ثمانية مليارات دولار)، وارتفعت ربحية المصارف، فتوسعت في افتتاح فروع جديدة لها، ما يعني زيادة عرض الوظائف أمام اللبنانيين. أما القطاع السياحي الذي كان خامداً منذ سنة 2008، فقد عادت إليه الروح والاختلاج، ومعظم المقاهي والمطاعم في بيروت وجبل لبنان تكتظ في كل يوم بالسوريين. وأصاب القطاع التجاري تحسناً لافتاً جراء زيادة الاستهلاك. وازدادت حركة مطار بيروت الدولي (70% من ركاب شركة MEA سوريون). ونفض القطاع العقاري الخمول عنه، لأن 81% من النازحين يستأجرون المساكن التي يقيمون فيها، وهم يدفعون 420 مليون دولار سنوياً إيجارات سارية، ما أتاح للبنانيين أن يعيدوا تأهيل 7200 منزل، طمعاً في تأجيرها (انظر: تقرير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 27/ 5/ 2014).
وذكر تقرير صندوق النقد الدولي لسنة 2013 أن النمو في لبنان في سنة 2012 كان 1.5% فقط، لكنه ارتفع إلى 2% في سنة 2013 (تقرير معهد التمويل الدولي الصادر في مايو/أيار 2013 يورد أن النمو بلغ 3% في 2013)، ومن المتوقع أن يبلغ 4% في سنة 2014. أما التضخم، فمن المتوقع أن ينخفض من 6.7% في سنة 2013 إلى 2.4% في سنة 2014 (راجع تقرير صندوق النقد الدولي، 2013)
هناك بالتأكيد آثار سلبية للنزوح السوري، منها ارتفاع الحوادث الأمنية، وزيادة المخالفات التي تحصل عادة في المجتمعات الذكورية المهاجرة، كالشجارات والإقامة غير المشروعة، وكذلك جرائم السرقات والمخدرات والتزوير والتحرش الجنسي... إلخ، وهذه أمور بدهية، يمكن الحد منها بالحزم الأمني. مع ذلك، فإن نسبة هذه الجرائم إلى مجموع الجرائم المرتكبة فوق الأراضي اللبنانية أقل بكثير من نسبة عدد السوريين إلى مجموع السكان.

* * *

إن الحملة العنصرية التي ما فتئ سياسيون لبنانيون يتغرغرون بها، صباح مساء، تبرهن، مجدداً، أن الانحطاط لم يصل إلى نهاية بعدُ في لبنان. لنتذكر أن أمثال هؤلاء السياسيين الذين "استبسلوا" في التحريض على العمال السوريين منذ سنة 2005 كانوا، إلى فترة قريبة جداً، يتسولون مناصبهم وثرواتهم وتجارة زوجاتهم من ضباط المخابرات السورية في لبنان. وبرهن هؤلاء، للمرة الألف، أنهم عديمو الشجاعة والنزاهة لأنهم دأبوا على كيل المدائح للنظام السوري، في الوقت الذي كان عشرات من الكُتّاب السوريين الشجعان يُقتادون إلى السجون، جراء مواقفهم وآرائهم. وعندما خرج الجيش السوري من لبنان، لم يتورع هؤلاء النهازون عن الدعوة إلى طرد العمال البائسين، وإلى الانتقام منهم. ولا ريب في أن كُتّابا سوريين هم الذين علّموا الكُتّاب اللبنانيين شجاعة الرأي، حين راحوا يكتبون في الصحف اللبنانية، منذ سنة 2000 على الأقل، مقالات لم يجرؤ الكُتّاب اللبنانيون على كتابة مثلها، ففتحوا أمامهم باباً للشجاعة، لم يطرقوه من قبل.
في مواجهة العنصرية المتجددة في لبنان، فإن لسان حالنا يقول: أطلقوا سراح الكُتّاب السوريين الشجعان، وضعوا في مكانهم القضاة والعنصريين اللبنانيين.