السوريون ككائنات مونودرامية

السوريون ككائنات مونودرامية

01 يونيو 2020
غيّرت الحرب السورية مفهوم الزمان والمكان (ياسين آكغول/فرانس برس)
+ الخط -

منذ مدة طويلة، وتحديداً منذ استقراري الأخير في ألمانيا، وصديقي يحاول إغوائي للعمل معه كـ"دراماتورج" في مسرحية غير محددة. لكن نوعها معيَّن ومعلوم مسبقاً بالنسبة إليه. كان يرغب في الاشتغال على نص مسرحي "مونودرامي"، وكلما التقينا يعود لطرح الموضوع، وفي كل مرة بأسلوب مختلف يزيد فيه جرعة الغواية درجة، كأن يأتي مرة باسم الكاتب: "ما رأيك بقاسم مطرود؟"، ويسترسل بوصف نصوص مسرحياته المونودرامية وتشريحها. أو مثلاً ما رأيك أن نعالج مسرحيات يوجين أونيل القصيرة، ونحررها دراماتورجياً، بحيث تتحول إلى نص مسرحي يقوم على فكرة الممثل الواحد. علماً أن يوجين أونيل نفسه كتب مسرحيات قصيرة عنونها بمسرحيات البحر، وبعضها لا يتجاوز عدد شخوصها الاثنين. وليس من العسير تدبر أمر ممثل إضافي والبدء بالعمل على المسرحية.
لكن لا أعرف حقاً لم كانت فكرة المونودراما مستحوذة على صاحبي بهذا القدر. بدا لي أن الأمر لا يعدو كونه تكتيكاً فنياً نتغلب فيه على معوقات الإنتاج المسرحي وعلى صعوبة التنسيق لعدد أكبر من الممثلين في ظرفنا الحالي كسوريين. والمونودراما، كنوع فني، مفهوم حديث نسبياً. بالنسبة إلى إطاره الإصطلاحي، وهو يعني الدراما التي يؤديها ممثل واحد، بشرط أن تكون هذه الوحدانية مبررة وقائمة على محنة واضحة، أقله على مستوى البعد الانفعالي للشخصية المسرحية، لكن يمكن أيضاً تأصيل الوحدانية من خلال محنة تنتمي إلى البعد الدلالي العام للمسرحية، تماماً مثلما كسر شرط الوحدانية أكثر من مرة في مسرحية "حال الدنيا" لممدوح عدوان، من خلال حديث الممثل الواحد مع أكثر من شخص على الهاتف.
لكن محنة الشخصية في مستواها الدلالي حافظت على الوحدانية أصيلة، ولم تمسّها الهشاشة، لأن الشخصية كانت وحيدة في عمقها، ومقبلة على فعل كبير يهدف إلى نفي تلك الوحدانية. لا محنة، لا وحدانية، إذاً لا مونودراما. وسؤالي لصاحبي كان: هل نحن نختار المونودراما، أم هي التي تختارنا في هذه الحالة؟ هل ثمة ما هو أبعد من اتباع استراتيجيات التغلب على معوقات الإنتاج؟ على هذا النحو، يبدو أن إصرار صاحبي على هذا النوع من التعبير الفني، خيار عقلاني جداً، إن كان يرى أن سوري اليوم كنموذج اجتماعي مؤسس لشخصية مسرحية، لن يقدمه أي نوع مسرحية بصورة دقيقة مثلما تقدمه المونودراما. وهذا من جانب آخر أيضاً هدف محقق للدور الاجتماعي في مجالات التعبير الفني.
كل تلك المحن التي يكابدها السوري والشعور المتعاظم بالوحدة لديه، ستقدمها دراما الشخصية الواحدة بكامل ألقها. عادت بي هذه الجدليات مرة أخرى لأقيس المسافة بين الدافع الاجتماعي والنتيجة الفنية المستنتجة من ذلك الدافع لدى الفنانين السوريين. عدت بذاكرتي إلى المسرح السوري في سورية المستقرة استبدادياً، ولم أجد في ما استعدت مبرراً واضحاً لتذبذب المسافة بين الدافع الاجتماعي والنتيجة الفنية. وأنا هنا لا أتحدث عن المسرحية السياسية المباشرة التي صفق لها حافظ الأسد، ولا التي حضرها بشار الأسد، فالترميز الذي تحمله المسرحيات السياسية المباشرة حمال أوجه قد يبدو لوهلة أنه موجه ضد السلطة، وقد يبدو أنه موجه منها على شكل بالونات اختبار من خلال تأصيل شخصية السوري المهزوم أمام سلطته، وفجأة يتحول هذا المهزوم إلى بطل مغوار أو غوار في وجه أعداء الوطن. ولا ضير في البقاء تحت الحذاء في سبيل استعادة الكرم المنهوب.
وهذا، كما هو واضح الآن، قد أدى دوره التعبوي. لكن لا يمكن في أي حال من الأحوال اعتباره دوراً اجتماعياً أخذ حيزه المستحق في التعبير الفني. أنا أتحدث هنا عن المسرح بوصفه مجالاً أكاديمياً للبحث الاجتماعي يشغل مساحاته فنانون تؤرقهم تحولاته، وتشدهم سمات نماذجه، فيظهر ذلك جلياً في اختياراتهم الفنية، مدفوعين بحافز اجتماعي لاختيار هذا النوع، فضلاً عن سواه، أو هذا النص عن غيره من النصوص المسرحية.
دائماً كنت أتساءل: لماذا يعرض المسرح القومي مسرحية "البيت ذو الشرفات السبع" لأليخاندرو كاسونا بكامل شرطها الإسباني، ولماذا يستحضر غسان مسعود "عربة اسمها الرغبة" لتينيسي ويليامز بكل تفاصيلها الأميركية على خشبة مسرح سوري من دون بذل أي جهد يذكر لتقريبها من المجال العاطفي أو الذهني للمتلقي السوري.


إن قراءة أي نتاج فني، بدءاً من الدافع، تبين حقيقة المسافة التي تفصل - أو تصل - الفنان عن الموضوع المطروح والغاية من طرحه الآن. وهنا، وحتماً عبر هذا الشكل دون سواه، بينما يمكن أن نجري استبدالاً بين نقطتي الدافع والنتيجة الفنية، ونحل محل الدافع النزعة الذاتية في مقابل النتيجة الفنية، وهذا سيقودنا إلى دائرة الفن للفن المغلقة. على الرغم من أنني أجد أن اللجوء إلى هذه النظرية متطرف بعض الشيء لقياس المساحة التي يشغلها الدور الاجتماعي في التعبير الفني ضمن الشرط السوري، فهذه النظرية في الأصل ظهرت وفق متطلبات وشروط اجتماعية خاصة، وفي مجتمع متمرس على التذوق الجمالي الخالص. إذاً، لنقل إن الفنان السوري في مرحلة سورية المستقرة استبدادياً، كان أميَل إلى التجريب الفني باستلاب كامل لمعايير التجربة الأوروبية والأميركية، وباقتناع كامل بنخبوية الفن، وهذه نقطة إضافية تمعن في انفصال الدافع عن النتيجة. بذلك، يصبح من السهل جداً فهم حالة الذهول التي تصيبنا كمتلقين وكفنانين بالدرجة نفسها إزاء بعض العروض الزائرة لدمشق وقتذاك، ونتساءل كيف أمكن فاضل الجعايبي مثلاً، أن يقدم الأسرة التونسية، رغم بساطة الموضوع بكل هذه القوة والإقناع والقدرة والمرونة لجهة مسرحة الموضوع والنماذج الإنسانية، فتبدو الإجابة عن تساؤلنا من خلال تلمس قوة البحث الاجتماعي المستتر وراء بساطة الطرح، لدرجة أنه وضع الشخصية المسرحية أمام فرضية، كيف تتعامل أسرة ماركسية تقليدية مع قرار ابنتها بارتداء الحجاب والصلاة، لتنتج من هذه الفرضية مواجهات على مستويات عدة.


هنا، في هذا المثال، تبدو مكونات العمل الفني واضحة ومتمايزة الدافع والبحث الاجتماعي ثم الموضوع الاجتماعي، فالنتيجة الفنية. قد يكون الكاتب سعد الله ونوس أحد أكثر الفنانين السوريين المنغمسين في البحث الاجتماعي والدور الاجتماعي داخل العملية الفنية، وهو في هذا الصدد يقلص المسافة بين الدافع الاجتماعي والتعبير الفني عنه. لكن هذه المسافة تقلصت إلى الحد الذي جعل من الدافع هو ذاته الموضوع المراد التعبير عنه فنياً، وبرأيي (لم أكن في سورية أجرؤ على قول هذا الرأي علناً مع تحول سعد الله ونوس إلى "تابو" آخر يحظر نقد نتاجه الأدبي والمسرحي) أن هذا التطابق بين الدافع والتعبير الفني وسم مسرحيات ونوس بما أسميه تنويرية قسرية وبممارسة فعل الوعي على الجمهور بالإكراه.
دائماً ما كانت اختيارات الفنانين السوريين قبل الثورة تضعني في حيرة، ولم أجد أن استخدام عملية الإسقاط على الواقع التي يوصي بها كثير من الفنانين كافية أو تجدي نفعاً في حالتنا السورية. ربما شعرت بالحيرة ذاتها أمام إصرار صاحبي على خيار المونودراما، لماذا هذا الخيار ولم الآن؟ ومَن هو النموذج الإنساني السوري الذي نسعى الى التعبير به وعنه؟ أين المكان وفي أي زمان؟ ومَن هو السوري الذي نريد سؤاله ومساءلته عبر الفن؟ أهو إنسان الحرب الأسدية، أم ما قبلها؟ من يكون: ضابطاً، ممرضة في مستشفى الـ601، لاجئة، نازحاً، جهادياً؟ لقد أدت الحرب الأسدية الشاملة إلى تحولات عميقة على مستوى المكان وعلى مستوى الزمان، وهذان العاملان - في الأصل - هما جوهر البحث الاجتماعي المؤدي بالضرورة إلى خلق حافز للتعبير عنهما فنياً أو جمالياً، إن جاز التعبير. هما الفضاء الوجودي والتفاعلي للنموذج الإنساني.


وهذا التشويش الطارئ على المكان بفعل التدمير يختزل معه مجمل الاحتمالات التعبيرية، وبدوره يجبر النموذج الإنساني على إجراء استعادات زمانية للمكان، للابتعاد - ولو قليلاً - عن "سينوغرافيا" الخراب. فالزمان بحالته الماضية يبدو كمحبس للنموذج الإنساني، إن هو لم يجد سبيلاً لخلق اتصال بالواقع أو جاهزيته لامتحان المستقبل. وهذا ما يؤدي بالضرورة إلى إضعاف النموذج الاجتماعي وضمور فاعليته الدرامية بوصفه كائناً يتغذى فقط على الذكريات، ويوجد في مكان منزوع الطابع. والخراب هو أيضاً تجلٍّ للماضي القريب، وبحالته هذه هو الآخر يصبح زماناً بسبب زوال فعاليته المادية. لذلك، يجد الفنان السوري نفسه مضطراً الى الإجابة أولاً عن الزمان والمكان المحيطين بالنموذج الاجتماعي قبل الخوض في الدافع والموضوع، ومنها إلى التعبير الفني.

خلال سنوات الثورة والحرب، مرّ الفنانون السوريون بحالة من الجمود التعبيري المؤقت، واستطاعوا تجنب الراهن المتغير وتأجيله إلى حين ثبات المتغيرات واستقرار عاملي الزمان والمكان. ومجمل ما ظهر من أعمال فنية، إن كان في فضاء النظام أو فضاء الثورة، لم يعدُ عن كونه تنويعات على الحدث السوري بمعناه السياسي. 

لقد أظهر ميل عدد من الفنانين السوريين نحو السينما التسجيلية، كخيار فني، استعداداً للتغلب على معضلة الزمان والمكان في الموضوع الفني. فالمكان يعاصر لحظة الخراب والتدمير وما زال يحتفظ بشيء من فاعليته المادية، والزمان هو الآن ولا يزال الآن في كل مرة يخضع فيه الناتج الفني لثنائية الملقي والمتلقي.

ولا أظن أن العامل السياسي المتشابك مع الحدث السوري، بوصفه حدثاً عالمياً، هو فقط السبب وراء الاختراقات المذهلة للسينما التسجيلية السورية في أهم محافل السينما العالمية ومهرجاناتها، بل قدرة هذا الخيار الفني أيضاً على الحفاظ على مسافة متوازنة وشيقة بين الدافع والتعبير الفني.
ولكي لا تبدو الوحدانية والمحنة حبساً مونودرامياً آخر للنموذج السوري، اتجه بعض الفنانين لاستعادة دوافعهم الاجتماعية المؤجلة والاشتغال على نموذج الشخصية السورية في لحظة أزمتها الاجتماعية. ومع أن هذه الشخصية تنتمي من حيث وجودها وتكوينها إلى وضعية سورية المستقرة استبدادياً، لكن تلك الاستعادة التي أجراها بعض الفنانين السوريين من مهجرهم أشبه بإعادة الاعتبار للدافع الاجتماعي ولعلاقته العضوية بالتعبير الفني مع المزيد من الحرية في المعالجة والأسلوب. لذلك، وجدنا أن مسرحية "أحداث مدينة لا نعرفها" حددت مكانها في دمشق وزمانها بالتزامن مع اندلاع الثورة، حيث لا يزال الزمان والمكان يتمتعان بالاستقرار. وكذلك الأمر في مسرحية "يا كبير" التي جرت أحداثها ضمن مستويين مكانيين وزمانيين، وكلاهما مستقر أيضاً. وهناك أمثلة أخرى، الغوص فيها قد يبتعد بنا نحو التحليل الفني.
إن جمود التعبير الفني عند الفنانين السورين في المراحل المبكرة من عمر الثورة، ثم الحرب الأسدية الشاملة، بدأ بالذوبان التدريجي، على الأقل في فضاء مناصري الثورة أو معارضة النظام. ورغم أن الوحدانية والمحنة المزمنة التي تصاحب النموذج السوري تحيله إلى كائن مونودرامي بامتياز، إلا أنّ ثمة إشارات كثيرة إلى بدء وضوح المسافة ما بين الدافع والتعبير الفني، حتى وإن كانت هذه المسافة تظهر على شكل استعادات للزمان والمكان في سورية المستقرة أسدياً.

 

دلالات

المساهمون