السودان بين مطرقة المصالح الإقليمية وسندان العسكر

السودان بين مطرقة المصالح الإقليمية وسندان العسكر

09 مايو 2019
+ الخط -
ما إن أعلن الفريق الأول عبد الفتاح البرهان تسلّم السلطة في السودان، رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي، إلا وسارعت بعض الدول في المحيط الإقليمي، وتحديداً الإمارات والسعودية ومصر، إلى مباركة النظام والاعتراف به سلطةً شرعية.

وفي مسعى لاستمالة القيادة الجديدة، ابتدرت الإمارات والسعودية الرغبة في ضخ وديعة تشمل 3 مليارات دولار، إضافة لدعم السلع الأساسية، كالمشتقات النفطية والدقيق والأدوية. وذهب الأمر لأبعد من ذلك، حين دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بصفته رئيساً للاتحاد الأفريقي، لجلسة طارئة في القاهرة، لمناقشة تمديد المهلة المقدمة من مجلس السلم والأمن الأفريقي، الذي اشترط على المجلس العسكري تسليم السلطة للقوى المدنية خلال خمسة عشر يوماً.

لذلك، لا يمكن النظر لما يدور في السودان بمعزل عن السياسة الخارجية لمحور الرياض وأبوظبي، بالتعاون مع القاهرة، وتدخلاته المتزايدة في كامل المنطقة الإقليمية، التي ترى في ثورات الشعوب العربية الطامحة للتغيير الديمقراطي، إضافة لنشاط الإسلام السياسي، مبرراً كافياً للتدخل في سيادة الدول، وحرف إرادة شعوبها عن مساراتها المأمولة، بزعم الحفاظ على الاستقرار الأمني وضمان الانتقال السلس للسلطة، كما ذكر أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية.


ففي مصر، لم يتوقف الأمر على عزل الرئيس محمد مرسي، وتضييق الخناق على تنظيمه السياسي فقط، بل شمل كذلك الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والإعدام لجماعة الإخوان المسلمين. ولكن لم يؤد اشتداد القبضة الأمنية على جماعة الإخوان إلى الاستقرار، بل على العكس انفلت الأمن، وتزايدت العمليات الإرهابية، وضيّق النظام الحاكم مساحة الحريات على شعبه، فانطفأت جذوة الديمقراطية، ثم نشأت الدولة الاستبدادية، التي يرأسها عبد الفتاح السيسي.

أما حرب اليمن، التي تقودها السعودية ضد جماعة الحوثيين، والتي تشارك فيها أعداد مقدرة من قوات الدعم السريع، التي تأتمر لنائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، الفريق محمد حمدان دقلو الملقّب بحميدتي، فقد وصفتها الأمم المتحدة بأسوأ أزمة إنسانية يشهدها العالم، إذ يعاني قرابة 14 مليون يمني من وطأة المجاعة وتفشي الكوليرا، لتبقى شاهداً على نهج المحور الخليجي في دعم الحرب والعنف في المنطقة العربية، لا الديمقراطية والسلام.

الملاحظ أيضاً في السياسة الخارجية لمحور الرياض وأبوظبي، نزعته الدائمة لتكوين مليشيات مستقلة عن نظام الدولة. ففي ليبيا، أشار تقرير صادر عن صحيفة إندبندنت البريطانية إلى قيام الإمارات بدعم الجنرال خليفة حفتر للإطاحة بحكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، في انتهاك صارخ لقرار مجلس الأمن الدولي، الصادر في عام 2011، الذي يقضي بمنع تصدير السلاح لأطراف النزاع بالدولة الليبية.

أما في السودان، فقد أدى الجنرال حميدتي دوراً بارزاً في حرب اليمن، ما أكسبه بعداً إقليمياً مكّنه من التقارب مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان. فوفقاً للكاتب الأميركي والخبير في الشأن السوداني إريك ريفز، فإن حميدتي صار رقماً معقداً في المعادلة السودانية، للدرجة التي مكنته من أن يفرض صديقه الفريق الأول عبد الفتاح البرهان، المفتش السابق للجيش والمشرف على تفويج القوات السودانية لليمن، ليصبح رئيساً للمجلس العسكري. وقد أدى الدعم السخي الذي تبذله الرياض وأبوظبي، مقابل وجود القوات السودانية في خطوط الحرب الأمامية، لتنامي نفوذه العسكري والأمني في السودان، وما زالت التقديرات متباينة حول الحجم الفعلي لقواته التي تقدر بنحو 40 ألف فرد، تدين بولاء حصري لحميدتي وأفراد أسرته.

إضافة لما سبق، فقد أعقبت الزيارة السرّية لمحمد دحلان، القيادي الفلسطيني الذي يعمل مستشاراً أمنياً لدى وليّ عهد أبوظبي، على رأس وفد مشترك من السعودية والإمارات للخرطوم، العديد من الشكوك لدى المراقبين للشأن السوداني، وخاصة في ظل الأزمة المتفاقمة ما بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير، ما أدى لتطاول أمد الفراغ الدستوري والسياسي الذي تمر به البلاد، عقب الإطاحة بالبشير في منتصف إبريل/ نيسان المنصرم. أيضاً فإن قدوم طه عثمان الحسين، السكرتير الأسبق للبشير، ومستشار الشؤون الأفريقية بوزارة الخارجية السعودية، شكّل علامة استفهام أخرى لدى الجماهير المحتشدة أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، التي نددت بالتدخل الإماراتي السعودي ومحاولات تحويل مسار الثورة السودانية لخدمة مصالحها الاستراتيجية.

الشاهد في الأمر، أن مصالح أبوظبي الاستراتيجية في السودان تتعدى مزاعمها المتعلقة بالاستقرار الأمني في المنطقة، فرغبة الإمارات المستعرة في تمديد سطوتها على المعابر المائية لا تخفى على العديد من المراقبين. فعلى طول الشريط المحاذي للبحر الأحمر، امتدت سيطرة الإمارات على الموانئ البحرية في إريتريا، وجيبوتي، وجمهورية أرض الصومال، حيث يساهم سلاح البحرية الإماراتي في إبقاء مضيق باب المندب الحيوي مفتوحاً بدعم من الحضور العسكري الإماراتي في جزيرة سقطرى اليمنية.

ولا يمكن الحديث عن صراع الموانئ في منطقة البحر الأحمر دون أن يرد ذكر ميناءي سواكن وبورتسودان. ففي أشهر البشير الأخيرة على رأس السلطة، قام الأخير بعقد اتفاق مع تركيا، أعلن على إثره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تسلم ميناء سواكن الاستراتيجي، لتتولى تركيا إعادة تأهيله، وإدارته لفترة زمنية غير محددة. وبموجب هذا الاتفاق رست عدد من البوارج العسكرية التركية، وأخرى روسية، لتجد موطئ قدم في صراع الموانئ المستعر على ساحل البحر الأحمر.

بالمقابل، فقد تحولت الشكوك في ما يختص بتغلغل الإمارات في الشأن السوداني إلى يقين، وخاصة بعد إلغاء المجلس العسكري لبعض الاتفاقيات الاستراتيجية للنظام السابق، التي تتضمن الوجود التركي في جزيرة سواكن، فقد أصدر عبد الفتاح البرهان قراراً ألغى بموجبه الاتفاقية الموقعة من الجانبين، وتسلمت تركيا إخطاراً رسمياً بمغادرة الأراضي السودانية.

يبقي دعم الرياض وأبوظبي للمجلس العسكري الانتقالي والمماطلة في تسليم السلطة للمدنيين، في مقابل اتخاذ المزيد من القرارات السيادية، التي تقدم المصالح الخارجية على مطالب الشعب السوداني، جولة جديدة للثورات المضادّة لإرادة الشعوب في المنطقة العربية.

فكما يشكل التحول الديمقراطي هاجساً لمحور أبوظبي والرياض، فإن تدخلهم في الشأن السوداني يظل أحد المهددات الرئيسية للاستقرار الأمني والانتقال السلس للسلطة، لأن تعطيل الديمقراطية هو في حقيقة الأمر تعطيل لتطلعات الثورة السودانية، وطموحاتها المشروعة في الاستقرار والسلام.