السلوك اللبناني وكورونا

السلوك اللبناني وكورونا

21 مارس 2020

رش معقمات في مقر البرلمان اللبناني (10/3/2020/الأناضول)

+ الخط -
يُقال إنه في حرب لبنان (1975 ـ 1990) كانت إحدى القرى مهدّدة بالسحق من أحد التنظيمات، لم يبالِ أهلها بالعدوّ المشترك بقدر ما انشغلوا في الجدال في ما بينهم على أحقية أي منهم في رئاسة القرية. بدأ الهجوم وسط استمرار تشاجر الأهالي، واجتاحت المليشيا هذه القرية وقتلت من قتلت، وهُجّر الباقون. ينطبق هذا الأمر على ما يجري حالياً في زمن فيروس كورونا في لبنان مثلاً، فقد انشغل إعلاميون وصحافيون ونواب ووزراء، سواء تحت شعار "سبق صحافي" أو بعنوان "شدّ العصب الطائفي"، في النقاش حول من "نشر فيروس كورونا في البلاد". مأساة أن يتم تخصيص وقتٍ فارغ وعبثي لذلك، فيما الأجدى هو الاستعانة بالموارد القليلة لدى الدولة والشعب لمحاولة مواجهة الفيروس. أقلّه لمساعدة المواطنين والمقيمين في عبور هذه المرحلة. ولكن هل هناك من يريد فعلاً الخروج من هذه النقاشات العبثية؟ لا، لأن الأمر لا يقتصر على "الدفاع عن هوية وانتماء"، بقدر ما يعني "عدم إفساح المجال للآخر في تسجيل نقطةٍ عليه". هذا ما يهمّ فعلاً في السلوك اللبناني. لا يتأتّى ذلك من حالةٍ فوضويةٍ أو عشوائية ما، بل بمسار حفّزه غياب دولة فعلية، سمحت بنشوء سلوكٍ متوجس، تراكم إلى حدّ اعتبار أن تأسيس أي دولة يهدّد الكيان الطائفي ـ المناطقي ـ السياسي لمن يفكر بهذه الطريقة.
من حقّ أي شخص الاعتقاد بأنه لا يمكن فعل شيء في حالة طوارئ، خصوصاً في ظلّ تفشّي وباء كورونا، وبالتالي لا يُمكن بناء دولة، بل الاكتفاء بما لدينا لتمرير المرحلة. ربما يُعتبر هذا التفكير منطقياً وصحيحاً. ولكن، إذا كانت الدول قد باشرت ممارساتها بموجب قوانين دستورية، سواء في فرض الحجر الصحي أو إعلان الاستنفار العسكري أو تخصيص ميزانيات ضخمة للخروج من الأزمة، فإنها في الواقع تمارس فعلاً دولتيّاً يسمح في استمراره لاحقاً تحت عناوين عدة. أي أنه في وسع الدولة التي تبدّل من مسارها التنظيمي اليومي أن تتبنّى نظاماً آخر "خشية من المخاطر الصحية". ولكم أن تتخيّلوا إلى أي مدىً يمكن للدولة استغلال النظام الجديد، خصوصاً مع استخدامها الجيوش والقوى الأمنية، كما الحال في الدول الأوروبية، بدءاً من قمع الحريات وصولاً إلى زعامة "الفرد الواحد".
عليه، يمكن للبنان، نظرياً، الانتقال إلى مفهوم الدولة في هذه الأيام، وإنهاء زمن الأحزاب ـ المليشيات، غير أن الأمر يبقى في السياق النظري، لأن الواقع اللبناني يسمح بتكريس سطوة الأحزاب ـ المليشيات، بدعمٍ من دولة تابعة لها ولا قدرة لها على مواجهتها. في هذه اللحظة المفصلية والمكثفة في بيروت، تتقاطع انتفاضة 17 أكتوبر والنظام المهترئ والتردّي المالي والوضع الاقتصادي السيئ وفيروس كورونا ونوايا الأحزاب (المليشيات والتفكير الطائفي المناطقي) قبل الولوج في منعطفٍ ما. هنا يأتي دور المدنيين الذين في وسعهم ممارسة الحدّ الأدنى من قوتهم، بفعل تراجع القدرة الشرائية وسوق الأعمال والوظائف، سواء بسبب الفيروس أو بسبب سياسات النظام اللبناني، ما يسمح لهم بتشكيل شبكة أمانٍ مجتمعيةٍ، قائمةٍ على منطق التعاون لدرء العدو المشترك، لا على الصراع في سبيل رئاسة هذا المجتمع التعاوني.
دائماً في مثل هذه الأيام، يكون الإنسان على حقيقته، من دون أقنعة وغير قادر على الكذب. وحين يصل الإنسان إلى هذه الحالة، سيجد أن الجميع متشابهون، وأن التفاصيل البشرية المشتركة أكبر بكثير من نقاط الاختلاف الدينية والقومية والعرقية وغيرها. سيفاجأ كثرٌ في لحظة وعي بذلك. سيحاولون تجاهلها بالطبع، لأن الموروثات المتراكمة حاضرة وتُحاصر العقل، ولكن حين يختلي هؤلاء بأنفسهم سيجدون أنه لا معنى لكل الفوارق أمام ضخامة العنصر الإنساني، وأن عبارة "الانسان هو الغاية القصوى" ليست تفصيلية، بل جوهرية في المستقبل.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".