السلطان... لا الفقيه

السلطان... لا الفقيه

15 يونيو 2015
(الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015، الطبعة الرابعة)
+ الخط -

"بقينا نختلف على من هو خليفتنا حتى أضحى المندوب السامي الفرنسي خليفتنا"، هذا ما قاله السيد محسن الأمين يوما ما خلال عهد الانتداب الفرنسي للبنان وسورية، على خلفية سجالات فقهية سنية وشيعية حول الخلافة والإمامة. وهذا ما ينقله المؤرخ الرصين وجيه كوثراني في مقدمة الطبعة الرابعة لكتابه مُتجدد الأهمية "الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين، العثمانية والصفوية ـ القاجارية". بعد ما يقرب من قرن على تلك المقولة ما تزال تُدهشنا طاقتها الفاعلة وتكرار انطباقها المذهل: يختلف ناس البيت في ما بينهم ويقتتلون على السلطة بمسوغات الدين حتى آخر نزف من دمائهم، ليأتي الأجنبي يفصل بينهم بوجه ويحكمهم بوجوه. وهكذا هي الارتكاسة الطائفية الفظيعة التي تنزلق إليها منطقتنا اليوم في هذا الردح البائس من الزمن إذ تعيد تجريب ما جُرب: إعادة تعريف وحشر الجماعات الوطنية والأفراد والشعوب طبقا لهوياتهم الدينية والإثنية والطائفية، ثم زجهم في حروب دينية طاحنة لا مُنتصر فيها، يأتي بعدها الأجنبي حكماً وفاصلا بين المتحاربين حتى الموت.

أس المسألة وجذرها المتفجر يكمن في "السلطة" ... والسلطان. اختلف عليها الناس قديما كما حديثا، ومن أجلها وفي سبيل السيطرة عليها، قامت حروب وأبيدت جماعات، وأهلكت دول وأمصار، فـ"ما استل سيف في الإسلام مثلما استل على الإمامة"، كما قال الشهرستاني. في سعيه المحموم إلى السلطة لم يوفر السلطان، أياً كان زمانه ومكانه ودينه، وسيلة إلا استخدمها.

ولم يجد وسيلة أكثر نفاذا وفاعلية من الدين لتوظيفه والاستقواء به. في المسيحية كما في الإسلام بعدها، وفي كل ديانات وسياسات العالم، كان السلطان مهموما بالسيطرة على الدين ليقول لعامة الناس إنه حامي ذلك المُعتقد، وإن طاعته والولاء له هما من صميم الدين وأركانه.
ما يقرره وجيه كوثراني في هذا الكتاب ويعمقه في المقدمات المتوالية هو إعادة الاعتبار لسياقات التطور التاريخي عند احتدام الجدل الفكري والسجالي حول "السياسة والدين" في الإسلام (السني والشيعي) على السواء، بعيدا عن المناطحة النظرية التجريدية. فالسياقات التاريخية، الذاتية والمقارنة، هي التي تحفل بالغنى وتكامل الصورة، وتكشف هشاشة التفلسف النظري الاعتذاري من ناحية، والانتقائية التاريخانية من ناحية ثانية. هناك، أي في التجربة التاريخية وتنوعاتها وتفرعاتها وأزمنتها وشخوصها نشهد صراعات "السلطان" و"الفقيه" ويمكننا أن نخلص إلى نتائج تتمتع بصدقية موضوعية. هذا طبعا يناقض وينقض المنهج النصي الذي تحالف على ترويجه الاستشراق الكلاسيكي، والمنظور الحركي الإسلاموي ومثقفوه الذين وقعوا في أسر النص وانتزعوا تجربة المسلمين الغنية في قرون طويلة وألقوها جانباً.

المنهج التاريخي المتعمق، وكما نراه متجسدا في سلطان وفقيه وجيه كوثراني هنا، يقودنا إلى خلاصات هامة جداً. يتقدمها، تقويض الجوهرانية (السياسية الدينية) التي نصبها المستشرقون وحلفاؤهم من الإسلاميين حول الإسلام، بالزعم بأنه جوهر ثابت لا يتغير ولا يتفاعل مع السياقات التاريخية والسياسية والاقتصادية التي تمور حوله. وجانب من الجوهرانية تلك الادعاء بأن المسجد والسياسة في الإسلام متحدان متداخلان، ليس ثمة فصل ممكن بينهما كما الحالة في السياق الغربي بين الكنيسة والسياسة. يقول كوثراني إن المستشرقين روجوا هذه الفكرة طويلا، ثم سرعان ما التقطها إسلاميو القرن العشرين، ومعهم تحولت إلى ما يشبه القناعة العامة. وهكذا، وفي قلب التجربة الأوروبية، وبعد قرون من الحروب الدينية الدموية التي كان جذرها سببه تداخل الدين والسياسة وليس انفصالهما، فإن الحل الناجع الذي آلت إليه تلك التجربة، وهو الفصل بين السلطتين، يصبح حلا خاصا بالتجربة الأوروبية فقط. أي لا يمكن تطبيقه على الحالة الإسلامية لأن السلطتين هناك متداخلتان ولا يمكن الفصل بينهما، وعليه فإن العلمانية التي كانت هي الحال للمذابح الأوروبية، لا تصلح للمسلمين ولا للإسلام.

لنقض تلك المقولات المفروضة من عل والتي تقول بثنائية واضحة للدين والسياسة في التجربة الغربية، وتوحيد قصري مُفترض للمفهومين في التجربة الإسلامية، يغوص كوثراني في تواريخ الدولة العثمانية وتواريخ الدولة الصفويةـ القاجارية. يتابع توترات وعلاقات وتنافسات التسيس والتدين في السياقات الإسلامية ليستخرج من قلب التجربة، لا من تأويلات النص المفتوح على التفسيرات التي لا تنتهي، انفصال السلطان عن الفقيه في حالتي التسيس الإسلامي العريض: السني والشيعي. ما بدا ويبدو توحيدا للمجالين المذكورين لا يعكس في الواقع التاريخي سوى السيطرة الفعلية للسلطان على الفقيه، وتوظيف الأوّل للثاني. ونعلم جميعاً أن مدارس الفقه وعلم الكلام وأطروحات المناطقة (وسجالات الجبرية والقدرية وخلق القرآن) وكثيراً غيرها، لم تكن إلا استجابات التفسير الديني لمتطلبات المايسترو السياسي المُسيطر في هذا الزمن أو ذاك، أي السلطان. يلاحق كوثراني تلك الاستجابات وتناغمها مع السلطان، أو استخدام السلطان لها. من الماوردي ونظام الملك إلى محمد حسين النائيني والإمام الخميني، والاستنتاج التاريخي لا يني يتثبت ويتحقق، وهو سيادة السلطان على الفقيه، وانفصالهما الفعلي عن بعض. بيد أن التوظيف الإدماجي من قبل الأول للثاني أبقى ويبقي على الوعي الزائف المُشتهر بتوحد السياسة مع الدين في الإسلام، وهو الوعي الذي لا يخدم سوى الاستبداد ودكتاتورياته، ودوما باسم الدين والدفاع عنه.

المساهمون