السلطان الأخير... عبد الحميد الثاني

السلطان الأخير... عبد الحميد الثاني

15 يناير 2019
+ الخط -
تضج الشاشات العربية والأجنبية بالمسلسلات التركية، لاسيما التاريخية منها، وهي نهضة أرطغرل Diriliş Ertuğrul، وعاصمة السلطان عبد الحميد الثاني Payitaht Abdülhamid، ولعل في بثّ مثل هذه المسلسلات عبر التلفزيون الرسمي التركي TRT فيه من الرسائل ما يغني عن التدقيق في الموضوع، وإن لم يكن الأمر بالعظيم كثيراً في الأول منهما ففي الثاني بلا شك، مع علمنا بحظر الحديث والكتابة في فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني حتى عهد قريب.

إن ما يجري بثّه عن السلطان عبد الحميد الثاني لا يخرج عن المادة الإعلامية، ولا يبرأ من السياسة، وهي مادة للمجتمع عامةً، ولا يمكن أن تكون بحالٍ من الأحوال مرجعاً لطالب علم، فضلاً عن الباحثين والمشتغلين بالسياسة، وإن لمن الظلم الكبير للسلطان عبد الحميد رحمه الله أن يُقتصر في معرفة آثاره على مسلسل تلفزيوني تؤثر في مصداقيته ضرورات العمل الدرامي.

وفترة حكم السلطان عبد الحميد تهمّ العرب والأتراك معاً؛ فهو آخر السلاطين الذين يمكن القول عنهم: خلفاء بني عثمان، ممن بقيت لهم هيبة الخلافة وعالميّتها، وكان على صلة بأطراف الدولة العلية من الشرق إلى الغرب، وكان في عاصمته أعيان من شتى بقاع العالم الإسلامي التي كان علم الدولة العثمانية يرفرف فوقها.


ولعل من خير ما يلزم النظر فيه لمعرفة السلطان عبد الحميد والفترة الحرجة للعالم العربي والعالم عامة التي حكم فيها هي مذكراته، التي نُشرت بالتركية في عدة مجلات ثم جمعها د.محمد حرب وترجمها مع دراسة عن السلطان عبد الحميد وأهم القضايا في عصره. وقد أملى السلطان عبد الحميد مذكراته على مرافقه الشخصي في المنفى، وجاءت موجزة وبعناوين مختلفة.

أكثر المذكرات يشرح فيها السلطان سياسته ويبرر في ضوء واقع الحال ما كان عليه، ودوّن آخر أيامه في المنفى وما كان من أعدائه. وفي المذكرات تصوير لحال الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى ونتائجها الكارثية على الدولة. وقد ابتدأ المذكرات ببيان أهميتها وختمها بالبكاء على ما انتهت إليه الدولة.

إن مذكرات السلطان عبد الحميد على إيجازها ترسم صورة أقرب للتمام فيما يتصل بسياسته الداخلية والخارجية، وتُفيدنا كثيراً في فهم الشرخ الذي ضرب العلاقة العربية التركية، عبر دعاوى القوميات تارةً وعملاء الإنكليز الذين تحالفوا معهم ضد العثمانيين لوعودٍ خادعة؛ فلا هم بقوا على سلطنة العثمانيين المسلمين ولا هم ظفروا بما وُعدوا به.

ولأنه كان مرَمَى للخيانات من القريب والبعيد نتلمس الأنين والألم يتنزَّى من صفحات مذكرات السلطان عبد الحميد، فيقول: (لن يقدّروني حق قدري إلا بعد موتي، والذين أعلنوا أني أعظم مناصر للحكم الاستبدادي، وأني أكبر مستبدّ في العالم لا شك أنهم سيعترفون بالحقيقة بعد موتي، وسيتراجعون عن موقفهم تجاهي)؛ وهذا ما حصل بالفعل من كثيرين ممن غُرّر بهم وتحالفوا ضد السلطان وضد العثمانيين، لكنهم أفاقوا بعد فوات الأوان، وبعد أن وصل الذين امتطوهم نحو أهدافهم إلى مبتغاهم. وما زلنا مع كل أسى وأسف لا نعرف قيمة رجالنا إلا بعد موتهم!!

وحتى لا يُفتضح الخونة الذين حاربوا السلطان وأنهَوا أمر الخلافة بذلوا كل ما استطاعوا لإنهاء الملفات التي أرّخت حكم السلطان، فدمّروا وأحرقوا، ولأنه يعرف قيمة ما ترك قال: (كلامي مؤيد بالقيودات والسجلات الرسمية الموجودة في الباب العالي، ولو وُجدت الوثائق التي سُربت من خزانة الأوراق فإنها يمكن أن تُتمّ الأوراق التي ذهبت من قصر يلدز). وهنا درس لنا في العمل العلمي والسياسي والفكري في توثيق ما نعمل؛ إن كنا واثقين بصحة ما نعمل طبعاً!

وعن الحروب جاء في مذكرات السلطان عبد الحميد: (التعمير أولاً، لا الحرب: إن الحروب التي تنتهي بنصر ترهق الأمة، مثلها في ذلك مثل الحروب التي تنتهي بالهزيمة؛ أما الجائعون العراة في الأراضي الخربة، ويدّعون الرفعة والمجد ويرجون خلفهما فلن يكون هنا أمر مضحك مفجع كأمرهم)؛ وكأنه يصف بعض الحروب العبثية التي يفتعلها بعض صبيان الملك والسياسة اليوم!

لذا كان سرّ سياسة السلطان عبد الحميد في اللعب على المتناقضات الدولية لتجنيب دولته الدخول في أية حروب، وعن هذا يقول: (كان الواضح أن التنافس بين الدول الكبرى سيجرّها إلى التصارع والتصادم فيما بينها، وعلى هذا فإن الدولة العثمانية أمام تصارع وتصادم كهذا تصبح بعيدة عن أخطار التمزق والتقسيم، هذا هو سرّ سياستي التي استمرت 33 عاماً)؛ فليس الإقدام أن تحارب دوماً، فالأصل السلامة وتجنيب البلد والمواطنين ما يرهقهم. ومن أبدع ما قاله وهو يصف نفسه مع شعبه وهو يحارب أعداءه وما يبثّون للتخريب والتحريش: (كنت كالبستانيّ يحمي شعبه من الحشرات الضارّة، وكما يحمي البساتين أزهاره من الحشرات الضارة حميتُ أنا بلادي من الأفكار التافهة ولم أسمح لها بقَرْص دولتي).


وعن الأفكار التافهة التي ذكرها يقول وهو يتحدث عن مدحت باشا وما كان يردده من الديمقراطية: (مدحت باشا لم يرَ غير فوائد الحكم المشروطي الديمقراطي في أوروبا، ولكنه لم يدرس أسباب هذه المشروطية ولا تأثيراتها الأخرى، أقراص (السلفات) لا تصلح لكل مرض كما لا تصلح لكل بنية، وأظنّ أن أصول المشروطية لا تصلح لكل شعب ولكل بنية قومية)؛ وهذا مما نجد ويلاته حتى اليوم في حكم المستبدين، إن جاء يريد التطوير حمل شيئاً جاهزاً وطار به إلى بلده لتطبيقه بالزور، دون تحقيق شروطه التي تسبقه لأنها لا توافق مصلحته، وإن سئل أجاب: إنما أريد التطوير والتحديث!

وقال السلطان: (بعض الشباب الذي كان يذهب إلى أوروبا كان قبل أن يرى ما يحدث في المختبرات العلمية هناك؛ كان يرى السيدات تراقص الرجال، وكان هذا الشباب يُعجَب بالأوروبيين وهم يشربون الخمر أيضاً، وعند عودتهم إلى بلادهم يوصون بالأخذ بكل ذلك السفَه، مدّعين أن قمة الحضارة الأوروبية تتمثل في هذه الأمور، وكنت أقول: إن هذا خطأ؛ فكانوا يتهمون تفكيري بأنه عنكبوتي)؛ فهل يُظَنّ أن يدفع حاكم مستبد تهمة الظلم عنه بحفلات ماجنة لمشاهير في أماكن مقدسة مثلاً وهو يحسب أنه تقدُّم وتحضُّر؟!

إن هذا السلطان الذي حفظ الخلافة العثمانية من الانهيار أكثر من ثلاثة عقود عُومل بكل قسوة، ولأنه ردّ اليهود ورفض تسليمهم فلسطين مع كل الوعود والإغراءات جاءه في الوفد المؤلَّف لخلعه رجل يهودي (كارصو)! وإمعاناً في أذيّته أكثر نُفي إلى سلانيك مقرّ يهود الدونمة! حتى قال: (إن ما يحزنني ليس إبعادي عن السلطة، لكنها المعاملة غير المحترمة التي ألقاها)؛ حتى عُذب مرافقه الذي كان يكتب ما يمليه عليه السلطان، وجُرّد من أمواله الخاصة لصالح الجيش.

لكن الذي يرتفع بالسلطان عالياً أنه رغم كل ذلك الأذى رفض عدة محاولات لإخراجه من بلاده حتى دعوة الإمبراطور الألماني له رفضها، وقال: (ليس لنا بعد الله إلا دولتنا: إلى أي مكان يستطيع أحد أفراد آل عثمان أن يذهب إليه تحت راية غير رايته العثمانية!!)، لذا رفض كما ذكر إيقاف الجيش الزاحف لإسقاطه مع قدرته على ذلك؛ فليت شعري لو نظر في المعارضين اليوم أو مَن لا يكون الأمر على هواهم كيف ينقلبون فيركبون مجنزرات الأعداء ليدخلوا بها بلادهم على جثث أهلهم وإخوانهم!

وامتداحه العثمانيين لا يعني تعصّبه للقومية التركية، فقد قال في مذكراته: (رجّح الذين تولوا زمام الحكم من بعدي داعي القومية عند الأتراك وجعلوه في مرتبة أعلى من الغيرة الدينية، ونفّروا منهم العرب؛ فبئس ما كانوا يفعلون)!!

وهذا تفكير الكبار فلا ينغلق بدعوى القومية والعشائرية الجاهلية إلا ضعيف، والسلطان لم يكن كذلك، بل كان بيده سلاح ترتعد الدول منه؛ إنه سلاح الخلافة، فيقول: (وجود الخلافة في يدي كان يجعل الإنكليز يعيشون في دوّمة الاضطراب)؛ فلما تمزقت الأمة هانت على أعدائها!

وتنتهي مذكرات السلطان عبد الحميد بتصوير حاله وقد بلغته أخبار الهزائم التي أصابت جيوش الخلافة في الحرب التي تورّطت بها بسبب عنتريات فارغة حينها، فيقول: سجدت والدموع تسيل دماً من مآقيّ حتى الصباح، أحترق قائلاً: ليس لنا إلا الإيمان بك يا ربّي، فلقد كان جنودنا على كل الحدود ممزقين مبعثرين بين انسحاب وهزيمة، ولا يستطيع خلاصنا إلا الله؛ وإذا لم تنقذنا فلا تريني اللهم أياماً أسوأ من هذا الموت، وهذا آخر توسلاتي.

وكانت هذه الكلمات آخر ما جاء في مذكراته رحمه الله، ليؤكد الهمّ الذي ينبغي أن يكون عليه صاحب القضية، وهو همّ الأمّة، سواء أكان في مقدمة القوم أم في الساقة.
FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.