السكتة القلمية... مسمارٌ في نعش الكتابة!

السكتة القلمية... مسمارٌ في نعش الكتابة!

05 فبراير 2020
+ الخط -
في بعض أيام سنة 1956، قال الروائي الأميركي جون شتاينبك (1902 – 1968) إنه ما من كاتب يحوز جائزة نوبل -في الأدب- إلا كفَّ عن الكتابة بعدها، خشية أن ينتج عملًا جديدًا يقال فيه: أهذا عمل يليق بحائزٍ على جائزة نوبل؟! عزَّى شتاينبك نفسه بهذه السلوى، وللسبب ذاته برر زهده في نوبل؛ فلم يرتضِ لنفسه أن تلهيه الجائزة عن الكتابة، لا سيَّما وأنه- وَفْقَ زعمه- كاتبٌ تجري الكلمات في دمه، بل إن دمه مدادٌ لكتاباته!

وجاءت سنة 1962، وفاز شتاينبك بجائزة نوبل؛ فلم يكسر القاعدة، بل أكدها -ووقع في فخ التناقض المنطقي- وإن كان من قبل قد انتقد سابقيه على الطريق ذاته! لم يكتب حرفًا واحدًا حتى وفاته بعد ست سنوات! يدخل ذلك في نطاق قولهم في الأدبيات الشعبية "عيني فيه وأقول إخِيه"، أو قولهم في الأدبيات الفصيحة "وقع في الأمر الذي كان يحاربه"، وهذا هاجس قد يعرقل المرء ويكبله، ولربما ادعى التنسّك والتقشّف ما كانت الملذات بعيدةً عن متناوله؛ فإذا اقتنصها طلَّق الزهد والتصوُّف طلاقًا بائنًا؛ فقد (أتانا بقولٍ هلهلِ النَّسجِ كاذبٍ/ ولم يأتِ بالحقِ الذي هو ناصعُ) مع الاعتذار والتحية للنابغة.

رأى البعض أن شتاينبك نال نوبل دون استحقاق، وأن سبب فوزه بها تأييده الحرب على فيتنام، بل وعمله مراسلًا حربيًا هناك، ومهاجمته الاتحاد السوفييتي. على كل حال، فقبل شتاينبك بحوالي عشرين سنة، نشرت كاترين آن بورتر (1890 – 1980) مجموعتين قصصيتين؛ "ازدهار الخيانة" و"الجواد الشاحب والفارس الشاحب"، وحازت قدرًا وافرًا من الشهرة. يومها، تحدثت إلى المقربين -بل والإعلام بمختلف صوره- عن روايتها الجديدة "ليس هناك مرفأ آمن"، وتعاقبت الأيام ولم تظهر الرواية للنور، ودخلت بورتر جزيرة الصمت عشرين سنة بتمامها، ثم خرجت منها على متن "سفينة الحمقى".


تعاقبت عشرون سنة، تناهبت المشاغل والشواغل الكاتبة من اتجاهات عدة، ظن بعضهم أنها عقمت عن حمل فكرة فضلًا عن ولادتها، وعوتبت عتاب الجواهري حتى قال حكايةً عن مسائليه: (أأنتَ تركت الشعر غير محاولٍ/ أم الشعر إذ حاولتَ غير مطاوع)، ثم نشرت على الدنيا رداء عملها الجديد؛ فوُلِدَ عملٌ اكتسى صبغة شعرها الأشيب وخبرة عِقدها السابع.

عشرون عامًا من السكتة القلمية، قفلة الكاتب، حبسة الكاتب أو البيات الكتابي الشتوي، وإن شئت فاخلع عليها فترة الكمون الإبداعي، أو مدة الكف الأدبي، أو العقم الكتابي المؤقت! تختلف المسميات وتبقى الحالة واحدة، طالت أم قصرت، وقد يقرر بعض الأدباء مغادرة الميدان متذرعين بنضوب معين إبداعهم، أو خشية أن يقعوا في فخ تكرار أنفسهم واجترار ماضيهم في ميدان الورقة البيضاء.

هذا محفوظ نوبل (نجيب محفوظ)، بعد صيامٍ دام خمس سنوات، وبعدما اتجه لكتابة السيناريو -ظنًا منه أنه أديبٌ أفلت شمس كتابته- جاء عمله الأول بعد ثورة يوليو 1952، ومعه قامت الدنيا ولم تقعد. شغلت روايته "أولاد حارتنا" الأوساط الفكرية، والأدبية، والسياسية، والدينية، والاجتماعية على حدٍ سواء. انقطع محفوظ عن الكتابة خلال المدة (1952 – 1957)، وسجل اسمه في نقابة الممثلين كاتبًا محترفًا للسيناريو! في حياته انقطع محفوظ عن الكتابة خمس مرات، لكن روح الأدب نُفخت فيه من جديد، وعاد في كل مرة بقنبلة أدبية من العيار الثقيل.

في بيروت، انقطع توفيق يوسف عواد (1911 – 1989) عن الكتابة قرابة عشرين عامًا، وقد ظن أنه قدّم كل ما عنده، وترك ميدان القلم ما بين عامي (1944 – 1963)، ثم عاود الكتابة مرة أخرى، وانقطع سعد الله ونوس عن المسرح عامًا بطوله إثر وفاة زوجته، وأمسك الجواهري عن الشعر سنة بتمامها بعد وفاة زوجته أم فرات. في دمشق، صمت سعيد حورانية عن كتابة القصة القصيرة مدة، قبل أن يصمت للأبد في 6 يونيو/ حزيران 1994، ويعيش ثلاثين عامًا دون أن يمسك قلمًا، يُحيلنا ذلك إلى ما كابدته النحاتة الفرنسية، كاميل كلوديل، ولثلاثين عامًا أيضًا في مصحة عقلية؛ فانتهى صمت حورانية بوفاته، والقدر ذاته جرى على كلوديل.

الانقطاع عن الكتابة مسألة صحية، ولا يوجد كاتب أو مبدع لم يتعرض لها، إنها أشبه بفيروس الإنفلونزا، وأشبه كذلك بحالات الاكتئاب، تختلف مدة الإصابة بها من شخص إلى آخر؛ فبعضهم تمسّه نارها أو تلفحه ريحها، ومنهم من تحتويه وتُطبق على أنفاسه، ومنهم من تلازمه عقب كل عمل مدة، مثلما تصاب المرأة باكتئاب ما بعد الولادة عقب كل وضع، هنا -تحديدًا- يكون الهاجس مختلفًا، خصوصًا مع نجاح العمل السابق!

تخيل حجم الضغوط النفسية على غابريال غارسيا ماركيز (1927 – 2014)، أمضى الرجل ثمانية عشر شهرًا في كتابة "مئة عام من العزلة"، ونجحت الرواية نجاحًا ساحقًا حتى إن الطبعة الإسبانية الأولى منها نفدت في غضون أسبوع، وقالت عنها نيويورك تايمز إنها "أول عمل أدبي -بجانب سفر التكوين- يجب على البشرية كلها قراءته". لو كنتَ مكان ماركيز لأرهقتك الأعباء النفسية وأنت تحاول أن تخط كلمة بعد هذا الإنجاز؛ فلربما يكتب الأديب عمله وهو خالي الوفاض من أعباء نفسية متداخلة، لكن نجاح عملٍ ما بقوةٍ وانتشار واسعين، يضاعف معاناته ليُخرج عملًا لا يقل روعةً وإتقانًا عن عمله السابق، إن لم يتخطه بمراحل.

التأني في النشر مطلوب، لكنه في النهاية عامل نسبي، ليس إلزامًا أن يتقيد الناس بما تعتنقه من رؤى وأفكار، ولهذا فالتأني محمود بشرط ألا يصل إلى مرحلة "تعست العجلة". ثمة أمور أخرى تثني الأديب أو المبدع عن متابعة دربه، وإن كنا ندور تحديدًا في فلك توقفه عن الكتابة، منها شعوره بأن مخزونه الإبداعي قد نضب، رأينا ذلك عند توفيق عواد، ويحيى حقي، وهنا قد يكون السفر معينًا للفنان على تجاوز هذه العقبة، وينصح جي دي موباسان بالسفر لتجديد الأفكار، وذكر أنه جمع أفكار أقاصيصه من رحلاته شرقًا وغربًا.

للصدمات النفسية أثر في إحجام المبدع عن الكتابة، وهذا ما عايناه في حالتي ونوس والجواهري، فضلًا عن عبد الرحمن شكري، ومي زيادة، ونازك الملائكة، وكاميل كلوديل، وربما يعود الفنان لمتابعة دربه بعد أن يفيق من صدمته، أو بعدما يستوعب أن صومه لن يعيد الماضي، وفي الوقت ذاته سيجهز على موهبته، مثلما شهدنا عودة نازك الملائكة وسعد الله ونوس والجواهري، وقد لا يعود مطلقًا كما رأينا في حالة كلوديل ومي زيادة وحورانية؛ فقد أمسك حورانية عن الكتابة بعد رحيله القسري إلى موسكو، ولم يقوَ حنا مينه -الصديق الأقرب لحورانية- على إخراجه من صمته الأدبي وسكتة قلمه، تمامًا مثلما أخفق نجيب محفوظ في انتشال عادل كامل من هجران الكتابة.

يهدد بعضهم بكسر قلمه لأهداف سياسية أو لخلافات شخصية؛ فماركيز توقف عن الكتابة لأهداف سياسية، وفي 2014 أعلن يوسف زيدان توقفه عن الكتابة احتجاجًا على تعيين إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية، مستشارًا لرئيس الوزراء لشؤون الثقافة والعلوم والمتاحف. هنا، نتكلم عن التوقف وليس إيقاف الكاتب أو منع نشر كتاباته، وإن كان بعض الكتاب محصَّنًا من إيقافه عن الكتابة؛ فإن ذلك إما لشعبية جارفة قد تؤلِّب الرأي العام، أو لبلوغه درجة عليا على سلم التطبيل، أو لأنه يكتب من خارج القفص.

عبيد الكتابة وغزيرو الإنتاج، لكل فريق مسوّغات، لكنه لا يسلم من ألسنة الطرف الآخر ومناوشاته؛ فغزارة الإنتاج عند بعض الأدباء رهيبة، لا سيَّما إن صاحبها ألقٌ وتميز، نجد ذلك في كتابات عبد الحميد جودة السحار، وأمير تاج السر، والروائي العراقي علي بدر. ينظر بعض أقرانهم للمسألة نظرة ريبة؛ فهذا صلاح ذهني يصف السحار بأنه "يعاني إسهالًا في الكتابة"، وقيلت الجملة بنصها وفصها في حق تاج السر، والكاتب غزير الإنتاج يغمزه بعضهم بالاندلاق على الكتابة بما ملكت يمينه من ورق وأقلام.

يتوسع عبيد الكتابة في انتقاص مناوئيهم، ويحيلون إلى أمثلة تاريخية لا حصر لها؛ فيذكرون زهير بن أبي سلمى بالإجلال، ويعظِّمون الحطيئة، ولأبي الفرج الأصفهاني عندهم تعظيم وتجلّة، إذ قضى خمسين سنةً ليتحف الأدب بمصنّفه "الأغاني"، وابن بطوطة إذ أنفق أربعةً وعشرين عامًا ليكتب "تحفة النظار في غرائب الأمصار"، وجوته وقد أمضى اثنين وستين عامًا لينتج رائعته "فاوست"، ودافنشي وقد أهدى ثماني عشرة سنة من عمره لقاء "العشاء الأخير".

غزيرو الإنتاج لن يقفوا مكتوفي الأيدي، وسيناوشون خصومهم وينعتونهم بشُح القريحة، بغض الطرف عن بواعث هذا الشح، سواء أكان موقفًا وقرارًا أم هدنة مؤقتة، وترى معارك طحن العظام بين أنصار الصمت الأدبي وبين أنصار الإنتاج الغزير، لكن الاعتبار ومحك النظر -مع الشكر لأبي حامد الغزالي- ليس حكرًا على تلاسن الفريقين، إنما تدخل فيه عوامل أكثر تعقيدًا منها تسويق الكاتب لأعماله، وشهرته المحلية والإقليمية، ناهيك بالأثر الذي يتركه في نفوس قرائه.

بالعودة للحديث عن سعيد حورانية، ثمة سؤالٌ يطل برأسه: هل نضُب معين حورانية فآثر الانزواء والصمت؟ هل احتفاء النقاد به قضى على جذوة إبداعاته في مهدها؟ وتأسيسًا على هذين السؤالين يطالعنا سؤال جديد: أيعد سعيد حورانية نسخة عربية من الفرنسية فرانسواز ساغان؟! ولماذا أخذ النقاد على يحيى حقي كتابته مقدمات كتب بعض الأدباء الشباب؟ وما تأثير ذلك في نفوس كثيرين منهم؟ على الكاتب الناشئ أن يضع إجابات تلك الأسئلة نصب عينيه، وألا يخدعه الاستعجال فيكون أدبه "الأدب الاستعجالي" المدمر؛ فيلمع اسمه سريعًا وينطفئ وهجه بسرعة مماثلة، ويُنسى كأنه لم يكن شخصًا ولا نصًا! وللحديث عن الأدب الاستعجالي وقفات تطول.