السقوط من علوّ

السقوط من علوّ

26 اغسطس 2020
+ الخط -

باتت تتردّد هذه العبارة كثيرًا في الأخبار، هذه الأيّام. لا يجد ناقل الخبر تعبيرًا عن سبب وفاة غامض لسقوط، سوى أن يقول إن الميّت قد سقط من علوّ، وفارق الحياة. ولا يذكّر أن الذي سقط قد أصيب بجلطة قلبيّة؛ لحزن شديد؛ فسقط من علوّ، حيث كان يتأمّل الحياة التي خذلته من أعلى؛ فاكتشف كم هي صغيرة وتافهة، ولكنها أتعبته، وأرهقته، ولم تُفسح له مكانًا فيها؛ لكي يتنفّس؛ فصعد إلى الأعلى؛ بحثًا عن هواء غزير نظيف ومنعش، وفتح ذراعيه لحياة مُدبرة عنه، ولكنه لأسباب فيزيائيّة، أو لسوء تقدير، سقط إلى الأسفل، جثّةً هامدة. أُغرمنا وسرح خيالنا كثيرًا، في أولئك الذين يسقطون من مرتفعاتٍ عالية، ثم ينهضون، وينفضون ثيابهم، ويواصلون سيرهم. وبالتأكيد حدث ذلك في أفلام الرسوم المتحرّكة التي نهانا كبارنا البسطاء عن مشاهدتها ليلًا؛ لكي لا نتحوّل إلى أشخاص من الكرتون مثلهم، وكنّا نصدّق ذلك، ولا نشاهدهم قبل النوم، وإنْ كنّا نتمنّى أن نقع، ولا نُصاب، وأن تصدمنا السيارات، وننهض من تحتها؛ بلا قطرة دم، وإنْ كنّا قد رأينا بعض المشاهد للسقوط من علوّ ينجو أصحابها في أفلام عربية هابطة، تقنعك بأن ذلك قد يحدث فعلًا.

واستسلمنا لتعبير سقوطٍ من علوّ، حين يكون الذي يسقط عاملًا بسيطًا، يعمل في البناء، وأطلقنا عليه لقب شهيد العمل، وقُلنا إنه قد لقى ربَّه، وهو يبحث عن لقمة عيشه، وخصوصًا العُمَّال الذين يقومون بالبناء، فوق روافع يدوية الصُّنْع. وأذكر أنني كنت أراها في الأحياء الشعبيّة في مصر حتى مطلع القرن الحالي، وتكاد تكون مهترئة الحبال، ولكن عشرة عمَّال ينجون من السقوط؛ لسببٍ بسيط، نسلِّم به، هو رعاية الله، وعامل واحد يسقط، ويصل إلى الأرض، بلا حراكٍ لسبب بسيط، سلَّمنا به أيضًا، وهو أن عمره قد انتهى، وأخشى أن أولئك العمَّال البائسين لم يتوقّفوا عن تسلُّق تلك "السِّقالات".

بحسب تقارير منظمة الصحة العالميّة وإحصائياتها، فإنّ حالات السقوط من علوّ هي ثاني أهمّ أسباب الوَفَيَات الناتجة عن الإصابات العَرَضية غير المتعمَّدة في العالم، وإن ما يزيد عن نصف مليون شخص يموتون سنويًّا؛ بفعل السقوط من علوّ، كما أن 80% من هذه الحالات تقع في البلاد المنخفضة، والمتوسطة الدَّخْل، وترتفع بين الذين تجاوزوا 60 عامًا من العمر.

بالطبع، لم تشمل هذه الإحصائيَّات والدراسات عدد النساء والفتيات اللواتي قُيِّدت حوادث موتهنّ؛ بسبب السقوط من علوّ، ولم يكن سبب موتهن ذلك السقوط العَرَضي، فهناك مَن دفع إحداهنّ من الخلف، وهناك من حُملت، وألقي بها من شاهق، وهناك من عُنّفت؛ ففرّت هاربة، لا تلوي على شيء؛ حتى سقطت. وهناك التي قرّرت أن تنهي حياتها؛ فألقت بنفسها، وسقطت من شاهقٍ، بلا روح.

السقوط من علوّ تهمة تعقب جريمة، تهمة تلحق بفتاة؛ أنّها ألقت بنفسها من علو؛ لأنّها فرّطت بشرفها، أو أن قطار الزواج قد فاتها؛ فأصيبت باليأس، أو أن حبيبًا كانت تنتظره قد تركها، ولا أحد يتحدّث عن حالة سقوطٍ من علوّ، لفتاة استأمنت رجلًا، وكان خائنًا، وهي تعيش في مجتمعٍ يجرّم المرأة، أو أن حادثة السقوط من علوّ لفتاة لم يرحمها مجتمعها، لجريمة لم ترتكبها، وهي أنها لم تتزوّج بعد، ومثيلاتُها أصبحن زوجاتٍ وأمّهات، بغضّ النظر، إنْ كنّ سعيدات، أو تعيسات.

هي آثمة، حين تقرّر أن تلقي بنفسها من علوّ. وإن سقطت من دون قصد، فهناك ألف قصة سوف تحاك، وتنهش لحمها وأهلها بعد رحيلها. أمّا هو حين يسقط من علوّ، فهو بائس ويائس، أو شهيد وبطل، فهو رجلٌ حتى، وهو يسقط، وهو بطل حتى، ومنظّمة الصحّة العالميّة لا تسجّل حالته حالة سقوط عرَضيّة، وتُدرجها تحت مُسمَّى قتل نفس، ولكنه في نظر مجتمع ظالم بطل أو ضحية. أمّا هي فجانية، حتى وهي تهوي فوق حبل غسيلها.

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.