الزومبي العربي

الزومبي العربي

03 نوفمبر 2018
+ الخط -


غريبة هي أحوال الإنسان، غريبة أهدافه تصوّراته طموحاته، غريبة عثراته سقطاتُه مع توالي الأزمان، غريبة غرابة تحوله من السمين إلى الغث، ومن الجيد إلى الرديء؛ بمعنى أن المعايير المؤسسة على ثوابت إنسانية وأخلاقية؛ أي تلك التي تستقي معارفها الدنيوية من رحم التجربة الإنسانية المتوارثة، غدت اليوم في بلدان العالم المُتخلف، معايير غير بنّاءة ومتجاوزة، على خلاف بلدان العالم المُتقدم التي أخذت بهذه المعايير، بما أنها منبثقة من صميم الإرث الإنساني، فتطورت واستمرت في تطورها لأنها عرفت كيف تبني صرُوح هذا التقدم والتطور على أساس هذا الإرث.

غير أنها اليوم - أقصد الدول المتقدمة- لكي تستمر في قيادة سفينة هذا التطور عالميا، دخلت - بقصد أو بدونه - في تشويش هذا التطور، عندما بدأت تقود فلسفة الاستهلاك وتابعاتها اللاأخلاقية على شعوب الأرض. وطبيعي أن تقود هذه الموجة الاستهلاكية في ظل وجود قابلية هذه الشعوب لاستهلاك جزء من استهلاكِها التافه، الذي يعود طبعا عليها بأرباح طائلة. ليس موضوعنا هنا، أن نعيب على أحد، أو نحيك نظريات مؤامرة حول أحد، فكيفما كان الحال فنحن من كانت له قابلية أن نستهلك أي شيء، لمجرد أنه يُحقق بريقا، معينا قصدا معينا...إلخ. حقيقة، هناك اليوم من اقتنص الفرصة واكتشف أن اقتصاد التفاهة (المبني على الإعلام)، أصبح العُملة الغالبة في مستويات ومجالات مختلفة. بمعنى أوضح، أن هذا السمين شُوّه إلى اقتصاد تافه مُدرّ للدخل، انقلبت الأدوار والمفاهيم، وطبيعي أن تنقلب ما دام الاقتصاد هو الغالب، حتى وإن كان يقتات على جسد هذا الإنسان وحضارته ورقيّه وكرامته... إلخ. التفاهة استحالت عملة، شهرة، وأوسمة شرف... وغدت غالبة في مصائر الناس وأحوالهم، تحركها مافيات ترتاع في خراب الإنسان وشرفه الإنساني؛ فمثلا عندما يتحول تافه لا يجيد إلا النباح والترنح فوق المنصات إلى أيقونة إعلامية ناشرا تفاهاته الأخلاقية والسلوكية إلى الأجيال، بدعم الأوصياء الساهرين على دعم السفاهة على الثقافة، وبدعم الحمقى في المجتمعات، خاصة منها العربية، حمقى ينشرون التفاهة، لكن هذه الثقافة اقتصاد ومؤامرة: اقتصاد لأن هذه المجتمعات تعرف إقبالا كبيرا على أزبال هؤلاء الحمقى في وسائل التواصل الاجتماعية، ومؤامرة لأنها تكريس لرؤى الخواء في مجتمعات في حاجة اليوم إلى إنقاذ، وصناعة القدوة.

الناس في هذه المجتمعات المغلوبة على أمرها، تعيش وهماً، تعيش وسط صناعة محبوكة بلغة الاستهلاك، بلغة السياسة والمصالح التي تخدم النظام العالمي الموحد، وتبقي القطيع مشغولاً بيومه، بخبزه، بجهازه التناسلي... ويغيب الإنسان، ويموت وتتلاشى معانيه السامية، ويركب بدون دراية دوامة الفراغ، ويصبح "زومبي" هائما في ملكوت الجلال بقرار من أصحاب القرار، وفق قوالب ترسمها شفرات مالية وطرق ملتوية بعيدة عن شرف الإنسان.


ليغدو هذا "زومبي العربي" الذي يوهم نفسه بأنه سيخلده التاريخ فتاكا باسم الإنسان، وباسم السفاهة والانحلال والأوبئة الأخلاقية التي تنفثها كائنات تشبه الإنسان - الزومبي، بأجسادها بكلماتها بتصوراتها الميّالة إلى الترنح، أكثر مما هي ميّالة إلى الاستقامة. لنعد إلى السينما بالغرب المتعدد، ونعد إلى تصورات صانعيها للإنسان المستقبلي، سيكون "زومبيا" هائما مُستهلِكا مستهلَكا، يعيش يومه في التفاهة مترنحا بدون كرامة بدون سيادة، بدون منطق، تراه بليدا ذليلا خاضعا على هامش الحياة.

هكذا هي الرؤية البئيسة التي تحاك تفاصيلها، هكذا هي خفايا وأسرار تصاعد موجة الحمقى والمجانين بالمجتمعات العربية على منصات التواصل الاجتماعي وباقي الوسائل الإعلامية، وكأن هذا العالم العربي صحراء قاحلة لا ينبت فيها إلا هذه السفاهة؛ من أمثال هؤلاء الذين لا يمتّون للثقافة أو الفن أو السياسة أو الاقتصاد بصلة... هؤلاء الذين يسيئون لصورة هذه المجتمعات - إن كانت فعلاً تأبه بصورتها الحضارية - يسيئون للأجيال المستقبلية بعرضهم لتصوراتهم البليدة، المريضة باسم التحرر المسيء للآخر... عارضين أمام الملأ طباعهم، فراغهم الشخصي (غير القادر على تخطي مآسيه ومآزقه النفسية)، انحلالهم الأخلاقي، تكوينهم الهش والفقير على مختلف المستويات... معتقدين أن آلاف "الليكات" تداري، تعوض النقص العاطفي والبسيكولوجي، وترضي النفس السوية، وتصنع التاريخ.

قد تكون اليوم كثرة "الليكات" لا تصنع تاريخا يخلد حضارتك، يخلد قوة نفسيتك وشهامتك شجاعتك فخرك وكبرياءك، قد لا تجعل اسمك جوابا للآفاق عبر الزمن، كاسم الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي، الذي قال في حضرة سيف الدولة: "سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا... بأنني خير من تسعى به قدم"، "الخيل والليل والبيداء تعرفني... والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ". لكن هذه "الليكات" الافتراضية تصنع شهرة زائفة من فقاع سرعان ما تتبدد، لأنها لحظية، غير أن تابعاتها التخريبية على المجتمع خطيرة، بحكم صناعتها افتراضيا "لزومبي" عربي يتحول واقعيا إلى قدوة سيّئة تقود بعض أطفال ومراهقي هذه المجتمعات إلى بريق تافه، بريق يعمي بصائرهم عن الأمل، عن الجمال، عن الحاضر والمستقبل، عن الكون وأسراره، عن البشر وأخطاره، بريق يُوغلهم في مطبات عبادة الأيقونات المصطنعة افتراضيا من لدن من يهمهم صناعة اقتصاد يرتكز على هذه التفاهة.

لنا اليوم أن نتكلم، حتى لا يعتقد هؤلاء التافهون من "الزومبي العربي" ومن يحرّكهم بدعوى الاقتصاد كمحرك ظاهر، وخراب المجتمعات العربية كمحرك خفي، أن هذه المجتمعات ليس كل مُواطنيها تستهويهم هذه البلادة المُستشرية في وسائل إعلامهم (لنقل بقصد)، أو يقدّرون أو يعترفون بهذا النشاز القيمي والأخلاقي الطالع عليهم بدون حسيب أو رقيب في وسائلهم الاتصالية والتواصلية ليشتت انتباههم عن الثقافة الحقيقة.

فالشهرة الحقيقة حسب رأينا دائما، لا تحتاج إلى كثرة "الليكات"، لا تحتاج إلى تصفير، تصفيق... الشهرة الحقيقة، هي أن تغير من داخل المجتمع بفعل يجعلك فخورا بنفسك أمام محكمة نفسك. وأن تجعل الآخرين فخورين بانتمائك لهم، أن تكون قدوتهم، مثالهم... بدل دخولك في قوقعة عبادة الذات باسم الشهرة، أو عبادة الجماهير باسم كثرة "الليكات". فالتفاهة وإن حوّلوها إلى شُهرة ثم إلى اقتصاد ثم إلى خراب، فهي لن تقدم إبداعا ولن ترقي فيك إنسانا.

نعلم، أن الدفع بالسفاهة والتفاهة لن ينهض إلا على أكتاف هؤلاء الحمقى (المشاهير)، لأنهم بمثابة حصان طروادة لمافيات التحكم، لمافيات الخراب التي تتخذهم آلية لهدم هذه المجتمعات من الداخل والخارج، "مافيات" تحلم أن تتبوأ درجة الألوهية (وحاشى أن يتأتى لها ذلك)؛ حتى وإن مالت الكفة، وكثرة الضجة، واشتد الخناق، وباعك تجار النفاق والشقاق، فاعلم أن الأمل في رب الأمل، وفي المجتمعات العربية من سيحمل منارة العلم والتقدم. وأن الاقتصاد ليكون اقتصادا ليس بالضرورة أن يتاجر في التفاهة ليكون مُدرا، بل بقليل من الرؤية يمكنه أن يسوق للقدوة، ليصبح رائدا راقيا خادما لمصلحة هذه المجتمعات وأمنها.

التفاتة:
أهدي هذا النص إلى الأمل الذي أشع علينا مؤخرا في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى الطفلة "مريم أمجون"، الفائزة بمسابقة تحدي القراءة العربي متمنيا لها، وباقي أطفال العالم العربي والإسلامي مسيرة حياتية موفقة بعيدا عن ضجيج الزومبي.

E57748E2-6C98-491D-9CB4-0E262B46862C
أكثيري بوجمعة

باحث وكاتب في مجال الدراسات الثقافية والفنون البصرية.