الزعامة ليست وساماً حكومياً

الزعامة ليست وساماً حكومياً

20 أكتوبر 2014

استقبال البرادعي في مطار القاهرة لدى عودته (فبراير/2010/أ.ف.ب)

+ الخط -

ثورات الربيع العربي كانت بلا رؤوس، فلم يكن لأي منها زعيم يقودها. وعلى إيجابية ذلك، كي لا تنسب الثورات إلى شخصٍ، إلا أن تعدد القوى الثورية، وتباين حساباتها، لم يكونا أقل خطراً. فقد نجحت النظم، بأذرعها الأخطبوطية، في تفتيت قوى الثورات، وتشتيت جهودها. فحيّدت بعضها، ورشت أخرى بمصالح ضيقة ومكاسب آنية، في مقابل انقلاب شركاء الثورات على بعضهم، والانزلاق إلى تشويه قوى ورموز ثورية أخرى، لمجرد أنها رفضت الانسياق وراء تلك اللعبة، فتم عزلها وتشويهها، واتهامها بالتآمر والعمالة، وتنفيذ أجندات خاصة بها تارة، وتابعة لأطراف خارجية تارة أخرى. جرى ذلك بوضوح، في مصر وتونس وليبيا واليمن. وبينما لم يترك النظام السوري فرصةً لأي حوار، أو حتى استقطاب وتجاذب سياسي، نجحت دول أخرى، بامتياز، في عملية تشتيت فرقاء المعارضة، وإجهاض تحركات الثورة، قبل أن تلتئم أوصالها. وفضلاً عن عوامل أخرى، أخمدت هذه السياسة الزخم الثوري في البحرين والأردن والمغرب والسودان. وفي كل الحالات، كان المشترك غياب القيادة، وافتقاد مركزية التفكير والتوجيه في إدارة الثورات والتوجهات الإصلاحية وحركات التغيير.
استقبل المصريون محمد البرادعي، عند عودته في أواخر عهد مبارك، كأنه المهدي المنتظر. وعوَّل كثيرون عليه لقيادة المعارضة، ثم سرعان ما تكشف أن مرحلة مبارك وصلت إلى شيخوخةٍ، لم تكن معها تحتاج قيادة قوية أو جبهة معارضة متماسكة، فسقط مبارك، واهتزّ النظام بحيوية الشباب، ومن حيث لم يتوقع شيوخ الحكم والمعارضة. وبينما كانت مصر، مباشرة بعد ثورة يناير، في أمس الحاجة لشخصية قيادية، تنظم الحركة وترشد التوجهات وتلملم الشتات، أثبت البرادعي، بجدارة، أنه ليس ذاك الرجل. وبعد أن شارك في مهزلة 3 يوليو، وما تلاها من إجراءات، اعترض على فض الاعتصام في ميدان رابعة العدوية بالصمت، ثم بالانسحاب، ولا يزال صمته يهزم صوته.
ولأسبابٍ مختلفة، لم يكن حمدين صباحي وأيمن نور وعبد المنعم أبو الفتوح وخالد علي وغيرهم أفضل حالاً من البرادعي، فهم بين ملائم وموائم ومسالم وحالم. والأمر نفسه، تمكن ملاحظته في ليبيا واليمن، فلا محمود جبريل كان يوماً ثورياً، ولا عبد الكريم بلحاج كان سياسياً. وفي اليمن، لم يجد اليمنيون من يقود ثورتهم، واكتفوا بتوكل كرمان التي يسمعها العالم، لأنها تجسد مظلوميتهم، وليس لأنها قائدة أو زعيمة سياسية.
في المقابل، لم يكن منصف المرزوقي زعيماً ملهَماً، وإنما معارض ومثقف ليبرالي محسوب على العلمانيين، وبالتالي غير محبوب من الإسلاميين. وبالعكس، كان دائماً راشد الغنوشي إسلامياً مفكراً وسطياً أكثر منه زعيما تنظيمياً. ونجحا، بمهارةٍ، في استيعاب الاستقطابات، وتجاوز فخاخ الثورة المضادة في الداخل والخارج. وحالياً يقودان تونس نحو إتمام المرحلة الانتقالية بنجاح، ليخرجا معاً زعيميْن وقائديْن جمعهما الإيمان بالإصلاح والوعي بالمصلحة، فالتقيا في الطموحات، على الرغم من تعارض التوجهات.
بين حالة النجاح هذه ونماذج الفشل تلك، جرت محاولاتٌ لا بأس بها، ويمكن تفعيلها لو صدقت النيات. منها ما تفكك ندماً وحسرة من فعل "الإخوان"، مثل جبهة فيرمونت في مصر، أو أفشل بالقوة مثل الحوار الوطني في اليمن. ومنها ما يزال يمثل فرصة ينبغي اقتناصها، مثل حوار غدامس بين فرقاء ليبيا.  
قد تبدأ الثورة بلا رأس، أما نجاحها واكتمالها فيحتاج، بالضرورة، إلى قيادةٍ، تمتلك الحنكة والجرأة، وليس بالضرورة الكاريزما. قد تكون القيادة جماعيةً، شرط أن تجسد المكونات والطوائف والتيارات التي تؤمن بالتغيير، ولا تساوم عليه. وسواء كانت القيادة المأمولة فردية أو جماعية، هناك حرب ضروس لا بد من خوضها، وثمن باهظ. مانديلا وغاندي وجيفارا صنعتهم المحنة والنضال، فالزعامة ليست وساماً حكومياً، ودخول التاريخ ليس منحة مجانية.
samehrashed@gmail.com


 

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.