الرّق واقعاً وموروثاً.. المستعبدون الجدد

الرّق واقعاً وموروثاً.. المستعبدون الجدد

28 مايو 2018
+ الخط -
مع مسعاها إلى فرض سيطرة الكهنوت الديني السياسي، كرّست اليهودية الرّق نظاما اجتماعيا اقتصاديا، حين ميّزت "بني إسرائيل" عرقيا، شعبا "اختاره الله"، وطبقياً، حين أباحت لهؤلاء استرقاق الشعوب الأخرى: "وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم (...)، وأما إخوتكم بنو إسرائيل فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف (...) فبعد بيعه يكون له فكاك" (لاويين 44:25- 48).
هدّدت المساواة في الروح التي حملها المسيح أسس النظام الاجتماعي القائم على الرّق، لكن هذه المساواة لم تتجذر اجتماعيا بتحول المسيحية عقيدة رسمية للإمبراطورية البيزنطية، فاقترن الرق بالخطيئة الأصلية، ليصبح عقاباً دنيوياً (القديس أوغسطين). وأقرّت رسالة الرسول بطرس إلى أهل أفسس نظام الرق، بل أصبح تمسّك الرقيق بعبوديته، ميسّرا لحساب الآخرة، مكافأةً على خدمة المولى في السماء والأرض (القديس سبيريانوس).
وفي غياب دولةٍ مركزية، لم يكن الرّق في مجتمعات شبه الجزيرة العربية من نوع العبودية الكدحية، لكنه بقي مكونا رئيسيا للنظام الاجتماعي الاقتصادي. تنوعت مصادر الاسترقاق، وبقي الغزو أبرزها. وكان الأرقّاء من أهم قوى الإنتاج، ومصدرا للمتعة الجنسية. أما النخاسة فعدّت تجارة رابحة. لعب الأرقّاء دورا ثقافيا، فجلبوا معهم لغاتهم، وثقافاتهم الدينية التي تداخلت مع عقائد العرب الوثنية قُبيل البعثة النبوية.

في ظل هذه الوضعية الاجتماعية المركّبة، اقتصاديا وثقافيا وجنسيا، لم يكن بإمكان المنظومة القيمية الدينية الجديدة إلغاء الرّق. وعلى الرغم من إقرارٍ بالمساواة أمام الله وقيام المفاضلة على التقوى، مارس النبي وكبار الصحابة الاسترقاق. مع ذلك، حُصر الاسترقاق والسبي بأسرى الحرب، ونالوا بعض الحقوق، كحق الزواج والمساكنة بين الزوجين، والمساواة أمام المحاكم، وحق الأَمَة في الاحتفاظ بطفلها عند البيع، وأصبح عتق الرقبة كفّارةً لمخالفات شرعية عديدة، وأصبح العتق واجبا في حالاتٍ، كأن يسبق إسلام العبد إسلام سيده.
في ظل الدولة الأموية، تزايدت أعداد الأرقاء داخل الدولة طردًا مع حركة الفتح الإسلامي، وظهرت أشكال جديدة من العبودية، تمثلت في ظاهرة الموالي التي بعد أن كانت تشير إلى علاقةٍ بين مَعتوق ومُعتِق، أصبحت تخصّ غير العرب الذين كان شرط دخولهم الإسلام أن يتخذ الواحد منهم قبيلة عربية، أو أحد شخصياتها الأرستقراطية حاميا ونصيرا، لكن تلك الموالاة تحوّلت، مع تعاظم التمييز العرقي العنصري، إلى نوع جديد من العبودية، نجد انعكاساً لها في رسالة معاوية إلى واليه، زياد بن أبيه، في كيفية معاملة الموالي.
لعب بنو العباس على تناقضات المجتمع الأموي، لتستهدف دعوتهم، بشكل رئيس، أولئك الموالي الحاقدين على بني أمية، لتتعاظم مع دولتهم شمولية الرّق ودوره في العملية الإنتاجية، وصار النخّاسون تجّارا محترفين فاحشي الثراء، وأشرف على أسواق الرقيق ممثل حكومي، سمي "قَيّم الرقيق". لكن هؤلاء تحولوا طلائع للثورات المتكرّرة التي قادها في المدن أواخر العصر العباسي، "العيّارون" و"الشّطّار"، تزعزع معها نظام الحكم، ليسقط أمام الغزو الخارجي.
في العصر العباسي أقرّ التوجه العام للمدونات الفقهية واقع الاسترقاق، واكتفى بتقنينه. واليوم، يتردّد معظم الفقهاء في إصدار فتاوى تحرّم مبدأ الاسترقاق في ذاته. يكتفي بعضهم بالتضييق مع الحفاظ على أصل الإباحة، باعتبار التضييق ميزةً إسلاميةً، حسّنت أوضاع الرقيق مقارنةً بالأديان الأخرى، وبوضعهم قبل الإسلام. ويتعلل آخرون بعدم وجود ظاهرة الرّق اليوم، مع أنهم مستمرّون في تدريس أحكام الرقيق المقننة في معاهد الشريعة وكلياتها خاصتهم. بعضهم يعتبره جزءا من الإسلام، يربطه بباب الجهاد القائم إلى يوم الدين، كما ذهب عضو هيئة كبار العلماء في السعودية، الشيخ صالح الفوزان، والذي رأى أن من يقول "بتحريم الرق في الإسلام عمدا ملحد ومرتد".
تطول سلسلة التبريرات، ولا تعكس سوى تصلب فقهي غير مبرر، من وجهة نظر الفقه نفسه، من حيث طبيعته ووظيفته، ومنهجياته التشريعية القائمة على مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان. ومن وجهة النظر التاريخية، المتعلقة بالوضعية الاجتماعية التي أُتي على ذكرها، والتي واجهت التشريع الإسلامي الأوّل، وكان على الفقه استكمالها في سياق التطور الحضاري اللاحق.
لم ترقَ فتوى شيخ الإسلام في إسطنبول العام 1857 إلى تحريم شامل للرق، كما أنها، إلى جانب فتوى شيخ الأزهر شمس الدين الأنباني العام 1882، جاءتا تحت ضغط القناصل الغربية لدى السلطنة العثمانية. ومع مرحلة الدولة الوطنية بعد الاستقلال، استمرت قوانين تمنع الرّق أقرّتها قوانين الدول الاستعمارية، ولاحقا اقتضى الانضمام للأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، مصادقة الدولة الوطنية وقبولها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وغيرها من الاتفاقيات والمعاهدات الأممية التي تمنع الاسترقاق، كاتفاقية العام 1926. أما إعلان حقوق الإنسان، الصادر عن منظمة التعاون الإسلامي، فلم يقدّم حلا جذريا للمشكلة، حين أقرت مواده بأن "البشر يولدون أحرارًا، ولا أحد يملك حق استعبادهم"، لكنه ترك تفسير ذلك للشريعة الإسلامية التي في جوهرها لا تحرّم الرّق.
تعرّف منظمات إنسانية وحقوقية الرّق اليوم بأنه "الحرمان من الحرية الشخصية بغرض الاستغلال"، ليدخل تحت هذا المفهوم الحديث للرّق: التجنيد الإجباري للرجال والأطفال، العمل بالسخرة، الزواج القسري، زواج القاصرات، عمالة الأطفال، الرق المنزلي، والاستغلال الجنسي التجاري،.. وغيرها. ولا تزال القيم الإسلامية اليوم من دون تطور القيم العالمية المعاصرة، فمن موريتانيا غربا إلى باكستان شرقا، ومن سورية شمالا إلى اليمن جنوبا، لا تزال ظواهر الاسترقاق ماثلة، الحديثة منها، والتقليدية. وتحتل دول عربية مواقع متقدمة على مؤشر الرق العالمي 2016، فتشاركت اليمن وسورية وليبيا والعراق المركز السادس عالميا
(1.130%)، وتراجعت موريتانيا إلى المركز السابع (1.085%) بعد أن احتلت المركز الأول عالميا في العام 2014 (حلّت محلها كوريا الشمالية)، وتقدمت مصر إلى المركز 20 عالميا بعدد مُستعبَدين بلغ 572900 شخص، بعد أن كانت في المركز 53 على مؤشر العام 2014. وهذه النسب مرشحة للزيادة، في ظل استمرار النزاعات المسلحة في شرقٍ مضطربٍ، يتفكك دولا ومجتمعات.
يستهدف غياب تحريم فقهي للرّق، قبل الواقع القائم، موروثاً ثقافياً كرّسته منظومة القيم التقليدية، أدى شعورياً ولا شعورياً إلى استسهال تبرير الظلم الاجتماعي، والتمييز العنصري، الديني والعرقي والطائفي. بات التحريم شرطا لمجابهة أمراض عديدة ناشئة عن غياب قيم الحرية ضمن تلك المنظومة، والتي لعبت دورها في السكوت عن ظلم سياسي واقتصادي استمر عقودا، فتمكّنت أصولياتٌ متطرفة، أن تعود بنا إلى عصور غابرة، حيث السبي مصدر أساسي لإرضاء متعةٍ جنسيةٍ مفرطةٍ في التعدّدية، تستعجل دنيويا متعة مماثلة موعودة في الآخرة، ومارست نظم استبدادية وصايةً على شعوبٍ بدت في نظرها عاجزةً عن حكم نفسها عبر الوسائل الديمقراطية، فعاملتهم مُستعَبدين لا مواطنين، ولسان حالهم يردد مع جاهلية الأكثم بن صيفي "رُبّ عِتْقٍ شَرٌّ من رِقٍّ".
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.