الرقص مع الخراف

الرقص مع الخراف

16 سبتمبر 2014
+ الخط -

منذ سمعت ذلك "الخروف" الغاضب يغمغم، وهو على المذبح: "رافق الذئب ولو أكلك"، وأنا أشعر برغبة حقيقية بتجربة "الرقص مع الذئاب". والواقع أنني لا أدري ما الذي دفع هذا الخروف إلى تغيير مفاهيمه التي نشأ عليها، غريزياً وخبراتياً، في تلك اللحظة التي رأى فيها السكين تقترب من عنقه. هل كان حنيناً متأخراً إلى الغابات، أم جاء السبب من باب الندم على حياة الجبن والخوف التي عاشها، خشية "السكين" التي طاردته إلى المذبح. أم لأنه اكتشف، بعد فوات الأوان، أنه عاش مخدوعاً بأوهام "الحظائر" التي كانت تمنحه نوعاً خادعاً من الأمان المزيف، الذي أعفاه من عناء المطالبة بالحرية وأعبائها؟
لا أدري لماذا شعرت بصدق عبارات هذا الخروف المسكين، حتى إنني كنت على ثقةٍ بأنه لو أعطي أمنية أخيرة في حياته، لتمنى أن يمنح فرصة أن "يرافق الذئاب ولو أكلته".
عموماً، من جهتي أنا الذي اعتدت "الرقص مع الخراف"، حاولت أن أطمر تلك الرغبة في مقبرة الذاكرة، واعتقدت، سنوات طويلة، أنني نجحت، لكنها عادت لتتجسد أمامي ثانيةً، وأنا أقف، الآن، على أبواب صحيفة "العربي الجديد". وتساءلت: "ما الذي دفعني إلى القدوم بكل هذه الحماسة؟، ومن أي السكاكين والمذابح هربت، لأرافق ذئباً ظهر بغتة في الصحراء العربية، بعد انقراض الذئاب الحقيقية؟ وتساءلت أيضاً: ما الذي يفعله "عربي قديم" مثقل بإرث ثقيل من شروط الحظائر والهزائم والممنوعات، على أبواب "عربي جديد"، يزعم أنه تخفف من كل هذا الإرث، قبل أن يبدأ مشروعه الكبير؟
تُراني حققت معجزة الحصول على "أمنيةٍ" أخيرة قبل الذبح فعلاً؟ ربما. لكن، عليّ أولاً أن أتفقد أجزائي، كم تبقى من حريتي التي سطوا عليها، ومن كرامتي التي التهموا أجزاء وفيرة منها في حظائرهم؟ علي أن أتفقد "لسان" قلمي الذي أمعنوا فيه تقطيعاً عند كل حرفٍ لم يتوقف عند خطوطهم الحمراء.
وأعتقد أنه يتعيّن عليّ، أولاً، أن أتخلص من كل هذا الثغاء الذي علّموني أن أردده، كلما ذكر اسم "زعيم" أمامي، وأن أستعيد روحي ودمي اللذَين حملوني على أن أهبهما له ذات هتاف أجوف، وأن أستعيد يديّ اللتين أمعنتا في التصفيق للمواكب وهي تمر، أو للخطب الرنانة، وهي تلقى كالحجارة على رؤوسنا صباح مساء، من دون أن تحمل أي بشارة تقينا غوائل الجوع والفقر والبطالة والتشرد والتهميش والهزائم.
ومن المفارقات المؤسية في زماننا العربي العجيب، أنني لا أريد النجاة بجلدي هذه المرة، لأن جلدي مليء بالصوف الذي أمقته، والذي نما على جسدي، بعد طول الخضوع لشروط الحظائر العربية، بل كل ما أريده هو النجاة بما تبقى من رذاذ أحلام عربية كانت "كبرى" ذات يوم.
أريد أن أنزع عينيّ الملصقتين بالغراء على صور "الزعيم"، لأعرف، على الأقل، أن في العالم كائنات أخرى غير القرود، وأريد أن أخرج قليلاً من هذه "الخريطة" التي أقنعونا دوماً بأنها تمثّل العالم كله، لأعرف كم هي ضئيلة، بعد أن أصبحت قابلة للعبث بها، حتى من دول ضعيفة، مثل إريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان.
أريد أن أتأكد أن من كنت أرافقه ويأكلني لم يكن "ذئباً"، بل خروف أجبن مني، خصوصاً وهو يأتمر تابعاً لجزارين حقيقيين، يمنحونه من "المجد" شرف حمل السكين لذبح بني "صوفه" و"وبره"، ولأعرف أن شروط الغابة لا تنطبق على العالم العربي تحديداً، لأن "القوي لا يأكل الضعيف"، بل "الضعيف هو من يأكل القوي"، بدليل أن من يقود هذه الأمة سرعان ما يظهر ثغاؤه الحقيقي عند أدنى تهديد خارجي، أو يلملم صوفه، ويرحل عند أقل ثورة ربيع.
أريد أن أستعيد زئيري من كواتم الصوت، وأن أختبره في مواجهة السكين، وهي تقترب من عنقي، علّني أزأر في وجوههم جميعاً: "أنا الذئب.. أنا الذئب الحقيقي، أيتها الخراف اللعينة".

 
 
 

 

 
 

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.