الرشدية العقلانية لا اللاتينية

الرشدية العقلانية لا اللاتينية

10 ابريل 2018
+ الخط -
يتطلب فهم الناس الدين إعمال العقل. ولتحقيق ذلك، لا بد من التوفيق بين ما يشيده العقل من تصورات وما يأتي به النص من شرائع قد يوجد في ظواهرها ما يتعارض مع العقل، فيفتح الباب لمنطق العقل الراسخ في العلم أمام ما أتى به النص من تأويل، وهو ما يتحقق بالرشدية العقلانية.
وليست الرشدية المقصودة هنا إهمال الثوابت (النص) أو إنكارها أو حذفها، بل إعمال العقل فيها وفهمها، لتصبح ممرا لنهر التقدم والحداثة، فهي وحدها التي يمكن أن تفتح آفاقا للحرية وتعدد المعاني لخدمة الفرد والأسرة والمجتمع. لذا علينا بالإصلاح الديني، وليس كما يروج بعضهم بالتحرر والتخبط والإنكار والتهكم، وذلك بالتلازم مع ثورة فلسفية، يكون شاهدا عليهما ويشارك فيهما كل أطياف المجتمع، فبهما تتحقق الثورة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، حتى يمكن إرساء مفهوم المواطنة والعدالة والحداثة، فالإصلاح الديني وثورة الفكر الفلسفي هي بعينها الرشدية التنويرية العقلية التي تحقق الثروة العلمية.
يردد بعضهم اليوم أن الحل في عالمنا العربي حتى يمكننا اللحاق بالعصر الحديث والحداثة، يتمثل بتبني نموذج ما يسمّى "الرشدية اللاتينية" التي قامت على فكر ابن رشد في القرن الثالث عشر الميلادي، لتحرير العقل الإنسانى من ظلمة العصور الوسطى (تحكم ما هو إلهي فيما هو إنساني). تلك هي الطامة الكبرى، وهذا ما نخشاه، فالرشدية اللاتينية لم تقم على فكر ابن رشد العقلاني الكامل، بل استقطعت منه شروحه لمنهج أرسطو وأضافت عليه، لتدخله كله تحت الرشدية، وهذا بهتان عظيم، وهذا ما وقع فيه الآن المنظرين للرشدية اللاتينية.
لم يخرج ابن رشد عن النصوص الدينية ولم ينكرها، بل بذل مجهوداً ليثبت أن الفلسفة هي إعمال العقل لمعرفة حقيقة الله، من خلال اجتهاداته في التوفيق بين الفلسفة والدين والربط الوثيق بينهما، مؤكدا أنه لا خوف على الدين منها، ورفض أن يكون بينهم فاصل أو وسيط، وطالب بإعمال العقل بلا حدود في خدمة النص.
ابن رشد بريء من مقولة إن العقل مواز للوحي، وأن لا سلطان لواحد على الآخر، وأن الخلط بين السلطتين يفضي، إما إلى الشك في العقل أو إلى إنكار الوحي. كذلك هو بريء من مقولة إنّ العقل قادر على معرفة الطبيعة، وهي معرفة يقينية بدون اعتقاد. وأما الوحي فيخبرنا عن حقائق فائقة للطبيعة وخارجة عن نطاق العقل، وهي موضع اعتقاد وليست موضع يقين. إذ كيف يكون هذا وابن رشد من قال: "إن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" أي الحق المقصود الفلسفة والدين.
كان جهد ابن رشد المتواصل يسعى إلى أن يثبت أنّ النصوص لم تدع إلى الكهنوت، ولم تربط تعليمها باللاهوت، ولم تطلب صراحة أن يكون العلم في خدمة العقيدة، أو أن تكون الشريعة متحكمة في العلم ومهيمنة عليه، أو أن يكون تحت سيطرة رجال الدين وحجرا عليهم، وإن وجد العلم يجب ألا يخرح من حجرات المؤسسة الدينية الحاكمة. كذلك أثبت أنّ النص لم يطالب بوجود علم بعينه وذاته في خدمة نظام إلهي، واعتباره نظاما سياسيا، بل أكد أنّ النص طالب مهاجمة طغيان الفكر الديني وسيطرة رجال الدين على التعليم والتعلم، وأن النص هو من دعا إلى العلم الدنيوي، ونادى به من أجل إعمال نور العقل وتحريره من سلطة الخرافات والتقاليد، وحث على التأمل والتفكير والبحث.
وأثبت ابن رشد أن النص لا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل ويقيد تفكيره، بل ذهب به إلى أبعد مدى، مؤكداً أن النص لم يفرض التفكير السليم والبحث والنظر على المسلم والمؤمن به فقط، بل جعله للجميع، المؤمن وغير المؤمن. أيضا، أكد أنّ النص يطابق العلم ويفتح أبواب المعرفة، ويوافق العلوم الطبيعية، ويحث على إيجاد الأدوات العلمية التي تدعم وتستقيم بها العقيدة، وقبول كل مستحدث في العلوم، ما يعني، في نهاية المطاف، أنّ الحل في الرشدية العقلانية، لا الرشدية اللاتينية.
04962194-B326-404B-8E6A-BE9981B50615
04962194-B326-404B-8E6A-BE9981B50615
أحمد البهائي (مصر)
أحمد البهائي (مصر)