الرأسمالية وإصبع الزعيم

الرأسمالية وإصبع الزعيم

08 اغسطس 2020
+ الخط -

أتابع هذه الأيام على شبكة نتفليكس مسلسل "الناجي المعين" (designted survivor)، وهو مسلسل من إنتاج أميركي (قناة أي بي سي)، وإخراج براد تورنر وريتشارد جيه لويس، وبطولة ممثل "الأكشن" كيفر سترلاند. المسلسل المؤلف من ثلاثة مواسم عن الوزير توم كيركمان الذي يعين رئيساً للولايات المتحدة الأميركية إثر انفجار كبير يحدث في مبنى الكونغرس، ويقتل المئات، بمن فيهم الرئيس (كان يلقي خطاباً) ونائبه والوزراء وكل أعضاء الكونغرس تقريباً، ولم يبق من الناجين سوى وزير الإسكان، كيركمان، الذي يُفاجأ بتعيينه رئيساً للبلاد باعتباره الناجي الوحيد، على الرغم من أن لا تاريخ سياسياً سابقاً له، وهو مستقل (لا ينتسب إلى أحد الحزبين المشكلين للكونغرس)، وقادم من خلفية أكاديمية، فهو أصلاً بروفيسور، وعين سابقاً وزيراً للسكن، بسبب تميزه في اختصاصه، لا لسبب سياسي ما. 

المسلسل أميركي بكل ما فيه، بمعنى أنه يقدّم صورة بيضاء عن الولايات المتحدة في سياساتها الخارجية، وهذه السياسة، حسب المسلسل، مبنية على الأخلاق والفضيلة، حروب أميركا كلها هي دفاعاً عن النفس أو عن المظلومين في العالم، وضحايا الحروب المدنيون هم نتيجة أخطاء بشرية أو مؤامرات كبيرة على الرئاسة من قلب معمل السياسة الأميركية. وفي كل حرب "يتحفنا" المسلسل بخطاب "أخلاقي عالٍ" يظهر اتفاق المؤسسات الأميركية السياسية والعسكرية على احترام أخلاق الحرب! على عكس السياسة الداخلية، حيث التحالفات والمؤامرات التي تصل إلى حد القتل، والحديث عن تحالف رأس المال مع السياسة ودور المافيا الرأسمالية في رسم السياسة الداخلية للولايات المتحدة، على أن الرئيس الأميركي في المسلسل يظهر في صورة الرئيس المشتهى، كما يتصوره الأميركيون، لا كما هم رؤساء أميركا الحقيقيون: واضح وصريح وعاطفي وحازم ومخلص ونزيه وعادل وديموقراطي وحر، لا يتقن لعب السياسة، خطابه شعبي لا شعبوي، أي السوبرمان الأميركي حين يكون رئيساً!

على أن ثمّة ما يظهره المسلسل من دور المؤسسات الأميركية في محاسبة أي مسؤول، أو ما يمكن أن نسميه الديموقراطية، ولو على الطريقة الأميركية، واحترام المواطن الفرد الأميركي وحياته، وهذا حقيقي، ويتحدّث عنه أصدقاء سوريون مقيمون حالياً في أميركا، ليسوا أساساً من المعجبين بالسياسة الأميركية. وربما أفضل ما قدّمته الديموقراطيات الغربية (الرأسمالية) التي نشتمها نحن العرب هو احترام الفرد واحترام حقه في الحياة والعقيدة والاختلاف، واعتبار حياته قيمةً لا يجوز التعامل معها باستخفاف تحت أي بند. 

من قبيل المصادفة أنني، وأنا أتابع المسلسل، يحدث انفجار مرفأ بيروت المهول الذي محا نصف العاصمة عن بكرة أبيها تقريباً. نعم، تحدث الحروب في كل مكان، العسكرية الاستعمارية والأهلية، ولبنان عانى الأمرّين من هذه الحروب، ومن نافل القول إنه لا يمكن مقارنة أنظمة دول العالم الثالث أو الأنظمة التوتاليتارية بأنظمة الحكم في الدول الديموقراطية الرأسمالية. نحن محكومون من عصابات ومجرمين أنتجت دولاً فاشلة لا أنظمة حكم، غير أن الانفجار في مرفأ بيروت يحمل طابعاً آخر، لا يشبه الحروب، ولا الإرهاب العادي، ولا يمكن إلقاء المسؤولية عنه على أحد سوى على زعماء الطوائف والأحزاب التي دمّرت لبنان في الحرب الأهلية، واستنفرت كل ما فيه لصالحها، في تحالفٍ استثنائي بين زعماء طوائف وأمراء حروب متصارعين أصلاً، لكنهم متحالفون ضد لبنان كياناً، وضد الشعب اللبناني مجموعاً وأفراداً، لا يوجد نظام يشبه النظام اللبناني الممتد منذ اتفاق الطائف (1989)، لا يوجد نظام ترتهن أركانه بكل وقاحة لدول أخرى مثله، (سورية تسلك المسار نفسه). ماذا يعني أن يعرف جميع الزعماء في لبنان بوجود كم مهول من مادة شديدة الانفجار مخزنة في مرفأ مدني تجاري في قلب العاصمة منذ سنوات عدة، ويصمتون جميعاً عن الأمر، معرّضين المدينة وسكانها لخطر شديد، في تواطؤ مافياوي لا سابقة له؟! لا معنى للحديث عن الأزمات الهائلة التي عصفت بلبنان خلال السنوات الماضية، الاقتصادية والسياسية والدستورية وغيرها. لا معنى أيضاً للحديث عن سحب لبنان كله ليكون رهينةً لمليشيات حزبية مسلحة مرتهنة أصلاً لأنظمة فاشية. لا معنى لذلك كله، فزعماء المليشيات بألف على باقي الخطابات. أما حياة الناس وأمانهم وسلامهم وعيشهم وحياة أبنائهم فهي لا تساوي إصبع الزعيم وهو يرفعها مهدّداً المتآمرين على قدسية وجوده.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.