الذي كان صديقي

باغتني بسؤاله، وهو يرفع فنجان قهوته، يرشفه بشراهة، وينفث دخان سيجارته، ليخفي ارتباكه أمام دهشتي:
ـ هل تعرف شروط الحصول على الجنسية الإسرائيلية؟
ـ لماذا؟!
ـ لا تجبني بسؤال.
ـ ليست لدي فكرة.
صمتَ وهو يركز بصره على موضع قدمه، التي يحركها بطريقة وتّرتْ أعصابي.
ـ أفكر جديًا في طريقة للحصول عليها.
ـ أنت؟
ـ ومن غيري؟
ـ تبدو عليك بوادر الجنون!
ـ بل قل إنني أعود إلى وعيي، الذي فقدته طويلًا مع شعاراتي القديمة.
صديقي هذا المثقف، حتى أيام الدراسة، لم نكن نلتقي، إلا وفي يده كتاب يحكي بأسلوبه المشوق لنا ملخصه، يستخرج من جيبه قصاصة صغيرة، ننصت، باهتمام، لهمسه بكلمات الرفض، التي اعتاد كتابتها، حتى على علبة الكبريت، أو تذكرة القطار ودفتر محاضراته المليء بالرسوم والكلمات المتناثرة. كانت طريقته تأسرنا وهو يشدو (لا تصالح)، منه حفظنا (لافتات أحمد مطر)، وتأثرنا برسوم ناجي العلي، وتذوقنا جُمَل محمود درويش.
ـ صديقي: أيعقل أن يصل بك الإحباط إلى هذا الحد؟
ـ يا عزيزي، انظر إلى حالنا وحالهم، رفعنا شعارات براقة: نحن أصحاب الأرض والحق والقضية، أية قضية؟ نسيناها، بل نسينا اسمها الحقيقي، قضية فلسطين، من يذكر هذا الاسم الآن؟ بعدما أصبحت، قضية الشرق الأوسط، بل إنها اختـُزِلت في مناكفات فتح وحماس.
ـ أتفق معك، خسرتْ حماس كثيرًا، بخوضها وانغماسها في السياسة على حساب دورها الاجتماعي، الإنساني المقاوم.
ـ صراع الحكم.. حكم ماذا؟ وطن ممزق بأيدي أبنائه، لا بأيدي الاحتلال، كلا الطرفين يزايد بفجاجة على الآخر.
ـ هي مرحلة، سيفيق الجميع، ويعود إلى رشده، متحّدًا متحديًا العدو الحقيقي.
ـ أي عدو؟ إسرائيل؟ يا عزيزي ليس لنا عدو سوى أنفسنا.
ـ لغتك غريبة عليّ.
ـ أتمنى أن أحصل على جنسية إسرائيل، لأحتمي بها ما بقي لي من عمر.
ـ تحتمي؟ أنسيت ما زرعته أنت فينا من كُره لهذه الدولة المسخ، وما فعلته، وما تفعله بإخواننا هناك؟
ـ ألا ترى أنت ما تفعله بنا بلدنا؟ ندين انتهاكات إسرائيل للفلسطينيين، وفي النهاية، هي قوة احتلال. ومع ذلك، هل رأيت جنديًا منهم يسحل فتاة إسرائيلية؟ أو يقتل مستوطنًا بدم بارد مهما اختلف معه؟
ـ نعم، هناك انتهاكات نتعرض لها؛ لكن ذلك لا يبرر..
ـ يبرر ماذا؟ رغبتي، أو قل أمنيتي في الحصول على جنسيتهم؟
ـ بالتأكيد..
ـ هل تعتقد أن بلدنا يمكنها أن تدمر جارة لها لأجلك أنت؟
ألا يكفيك فخرًا أن تنتمي إلى دولة تبادل رفاتك بعدد من الأحياء؟
ـ أين كلامك القديم عن...
ـ يا سيدي كفرت بكل ما قلته، وتبنيته، ودافعتُ عنه سابقًا.
ـ حَوْلنا دول شقيقة حققت لأبنائها "عيشاً كريماً"؛ لِمَ لا يقودك تفكيرك المحبط لتحصل على جنسيتها؟
ـ الأشقاء يلفظوننا، أنت سافرت من قبل، أنسيتَ كيف يعاملوننا؟ - ولهم الحق أحيانًا، أما الإسرائيليون، فسيرحّبون.
ـ منطقك غريب، أشعر أني لا أعرفك.
مرّ أمام عيني شريطُ لقطات تُبث يوميًا لمجازر ترتكب بحق إخواننا، أحاول مداراة اشمئزازي منه، أقاوم حركات معدتي التي تدفعني بسببه إلى أن ألفظ محتواها.
- ألا تحرك فيك مشاهد القصف اليومي؟..
- بلى، بحسرة أتابع، ويدهشني عرض أشلاء أبنائنا هكذا. يبدو أنك من لا يسمع تلك الأصوات الشامتة المبررة والمهللة، أيضًا، كم مرة سمعت: يستاهلوا؟!.. بينما يتأسفون لسباعية أخرجت البرازيل من منافسة الكأس التي شغلتهم، وأنستهم إنسانيتهم، بل ويمصمصون الشفاه حسرةً على حال ميسي، الذي لم تبتسم له الأقدار ليرفع الكأس!..
- في هذه أتفق معك، إنها عقولٌ خَرِبة ونفوسٌ مُشوهة. لكن، أتعي ما تقول؟ أنت لا تختلف عنهم كثيرًا.
ـ قُل ما شئت.. أنت لا تعرف أني مطارد في بلدي؟ جيش الاحتلال لا يفعل ما فعلوه مع عائلتي.
انتبهت إلى حاله المزرية، كان محقا لا أعرف عنه شيئًا؛ نحن لم نلتق منذ زمن، ولا أريد، الآن، أن أعرف، فما عدت أطيق الجلوس معه، أو حتى النظر إلى وجهه.
بلا استئذان، قمت لأدفع حساب القهوة، وأنا انصرف ألقيت عليه نظرة. آلمني منظر انحناءة جلسته، تضاؤله في كرسيه، وانكسار نظرته إلى موضع قدمه، التي يحاول إيقاف حركتها، لمحت لمعةَ دموعه وهو منكس؛ تذوقت مرارتها في حلقي، لكني قاومت أي إشفاقٍ، قد يعيدني إليه، قررت الذهاب بلا رجعة، وأنا أقف على الرصيف، أحاول أن أملأ رئتي من هواء نقي يغير حال معدتي، مداريًا انفعالي بصرخة من الأعماق.. "تــــاكس".