Skip to main content
الذين باعوا كتبهم!

مدونة عامة

محمد الشبراوي
قبل ساعات، استغاث الفنان العراقي حسين نعمة بأهل الفضل، وطلب إليهم أن ينجدوه من سياط الفقر، وكتب عبر صفحته على فيسبوك بحروف من أنين نازف: "أنشد نخوة عزيز قوم؛ فقد طال صبري وبلغ السيل الزبى، وأشرف ضنك العيش أن يهدد كرامتي لذل الحاجة والعوز.."، وهاجت الأحزان في صدري، ولن يعرف مرارة ما يقاسيه الرجل إلا من عاين وجرَّب.

وتذكرت يوم عرضت كتبي للبيع، لكنها بضاعة مزجاة وقليل طالبوها، وسوق كاسدة لا يقربها الناس إلا على استحياء، ولا يعلم بما يجيش في الصدر إلا الله، وتجولت في مجالس أهل الأدب لأعزي نفسي، ووقفت على أحوال عدد ممن باعوا كتبهم، أو عرضوها للبيع فلم يبيعوا منها شيئًا مثلي.

في إبريل/ نيسان 2018، عرض رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين فرع صنعاء، محمد القعود، مكتبته للبيع وأذاع النبأ من منبر فيسبوك قائلًا: "قررت أنا المدعو محمد القعود المصاب بلعنة الثقافة بيع مكتبتي التي تحتوي على ما يقارب أكثر من ثمانية آلاف كتاب في مختلف مجالات المعرفة والثقافة.. والكتب 20 بالمائة منها في مكتبة سكني و80 بالمائة في مكتبة خاصة بي خارج المسكن".


وقبله بعامين، عرض الأديب اليمني حسن عبد الوارث مكتبته للبيع، وقال في منشور على فيسبوك: "مكتبة عامرة (للبيع) للمشتري الجادّ، التواصل على الخاص"، ولا أعلم إن كان قد باع الكتب وسدّ حاجته، أم انقلب إليه بصره خاسئًا وهو حسير. وفي العام نفسه، عرض الشاعر الجزائري ياسين عبيد الله مكتبته للبيع، ليدبر نفقات علاج ابنته نور، لكنه تراجع عن قراره بعد تضامن محبيه وجمهوره، وقد وقفوا إلى جانبه في محنته، وعولجت ابنته بفضل الله ولم يفقد كتبه.

ما أتعس الأدباء في عالمنا! وما أسعد الهلاسين والفهلوية! تستشعر وكأن من يتصل بالأدب "منقوع في الهم"، والهم ده "مش جايبها البر"؛ فالواحد منهم يقع من نقرة لدحديرة وإلخ إلخ! يضيق عليه الخناق، ويضطر لهدر ماء وجهه رغمًا عنه، يبيع كتبه لا زهدًا فيها ولا مللًا منها، بل لمواجهة جزء من التزاماته الأسرية، أو لسداد الإيجارات المكسورة عليه، أو لعلاج فرد من أسرته، أو في محاولة يائسة بائسة لتكوين نفسه، ومع ذلك لا عزاء للأدب وأهله.

باع أستاذنا إبراهيم عبد القادر المازني مكتبته أربع مرات، وقد ربح من بيع كتبه ولا سيما الأغاني، ويعدّ بين أربح من باعوا كتبهم! باع المازني كتبه سنة (1917 أو 1918)، وكان قد اشترى كتاب الأغاني بمئة وخمسة قروش، وباعه بسبعمئة وخمسين قرشًا! لأنه أضاف بعض الشروح والتعليقات، ما أغرى الناشر بقيمة تلك الإضافات.

كنت أتحرج أن أذكر ما ألمَّ بي، لكنني لست وحدي في هذا الظرف العصيب، لكن رأي عمنا همنغواي أنه "لا يجوز للكاتب أن يكتب إلا عما جرب وعانى"، وقد تردد القعود طويلًا قبل أن يكتب: "مع اعتذاري لنفسي ولأسرتي ولكتبي عن كتابة نشر هذا الإعلان الموجع، الذي لم أتخيل في يوم من الأيام أنني سأكتبه وأنشره"، وعشت تفاصيل كل حرف من أحرف هذه المعاناة؛ فليس لها من دون الله كاشفة.

يقول ألبير أديب: "مكتبة الرجل عمره الثاني"، ومن يقتني مكتبة يقف على صحة هذا القول، ومن يضطر للتضحية بجزء من نفسه يعلم قيمة الكتاب، لكن الظروف الطاحنة التي نعيشها لا ترى معاناة من يعاني، وتسمح للواسطة بالقضاء على الموهوبين، ويحتل مكانهم أهل فيتامين واو. مع تفشي الإسفاف يتراجع الذوق، ورفع الذائقة الفردية والمجتمعية يستدعي تحسين العلاقة بالكتاب، وعندها لن يفرِّط الأدباء في مكتباتهم، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.