الذاكرة رجسٌ من عمل الشيطان

الذاكرة رجسٌ من عمل الشيطان

15 فبراير 2019
+ الخط -
"أجهزة المخابرات يمكنها التواصل حسب مصلحتها.. إذا كان لديك عدو فعليك الاحتفاظ بالعلاقات. فربما تحتاجها فيما بعد"، هكذا اختصر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، سبب إبقاء حكومته على اتصالاتٍ على مستوى منخفض مع نظام بشار الأسد. وقد جاء هذا الاعتراف صادماً، خصوصاً أن تركيا لا تزال تمثل المعارضة السورية في اجتماعات أستانا وسوتشي، ولا تزال تتحدّث وتوقّع وتقرر باسمها. وكان تصريح لوزير الخارجية التركي، مولود شاويش أوغلو، أثار ضجة كبيرة عندما قال "إذا فاز بشار الأسد بالرئاسة إثر انتخابات ديمقراطية في سورية، فإن تركيا ستفكر في العمل معه".
ما قاله أردوغان وقبله شاويش أوغلو لم ينسف كلام أردوغان نفسه السابق فقط، ولم يمح ثماني سنوات من التصريحات النارية التركية ضد الأسد فحسب، ولكن، وبالإضافة إلى كل ما سبق، وبعد أن بشّر شاويش أوغلو السوريين بأن تركيا غير رافضة ترشح بشار الأسد للانتخابات بعد عامين، وأنها تعتقد أن ثمة انتخابات ديمقراطية بمراقبة الأمم المتحدة يمكن أن تحدث. وأكثر من ذلك، تضع تركيا فوز بشار الأسد من الاحتمالات القوية، في انتخابات شفافة وديمقراطية، ومن ثم الاعتراف به والتعامل معه حليفا، فإن الرئيس التركي زاد في الطنبور نغماً، وأعلن صراحة أن الاتصال مع الأسد لم ينقطع، وإنْ في حدود ضيقة.
عشنا في سورية أربعين عاماً تقريباً بتعايش شبه كامل مع سياسات التجهيل التي مارسها النظام الحاكم الأب ومن بعده الابن، وعشنا آخر ثماني سنوات في محاولة تكسير أصنام الأربعين سنة. ولكن يبدو أننا مارسنا، في هذه السنوات الثماني، ونمارس على أنفسنا، سياسة تصديق كل الخداع الإعلامي، والنتيجة واحدة. في الزمنين كنا الطرف المخدوع بإرادته، وأكثر ما يدل على صحة هذه النتيجة أن الموقف التركي وجد من يدافع عنه بوصف التصريحات بأنها سياسة، والسياسة شطارة، والسياسة تلاعب بالمواقف، والسياسة خبثٌ ومهارة، وكما يقال: الحق الذي لا يستند إلى قوةٍ تحميه باطلٌ في شرع السياسة.
قال الرئيس أردوغان، في سبتمبر/ أيلول الماضي، "إن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، لا 
يمكنه البقاء في السلطة، في وقتٍ يحاول المجتمع الدولي وحلفاؤه ترميم نظامه وإعادة سيطرته على مناطق كانت تابعة للمعارضة". وقال، في المقابلة نفسها مع وكالة رويترز على هامش حضوره فعاليات أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة: "ليس بإمكان الأسد أن يظل في السلطة، فلا يمكن أن تستمر مساعي السلام السورية في ظل استمراره في السلطة".
إذاً.. ليس في وسع الأسد البقاء في السلطة، ولكن يمكنه الترشّح للانتخابات 2021، ويمكننا الإبقاء على التواصل معه، على الرغم من تصريحاتنا المتتالية والمتسارعة والمصرّة على أنه ليس للأسد وجود شرعي.
هل أضرَّ أصدقاء الشعب السوري بثورة السوريين أكثر من الأعداء؟ ربما، وعلى الأرجح اكتشف الأصدقاء السر الخاص بالعرب عموماً، وعلى ما يبدو بالسوريين خصوصاً.
السر الذي شاع اليوم هو أن للشعب العربي ذاكرة سمكة، والسلاح الذي كان يعتمد عليه الحكام العرب أصبح يعتمد عليه أصدقاء الشعوب العربية، وتكاد تكون الذاكرة عندنا، نحن الشعب العربي، والسوري منه، رجسا من عمل الشيطان. إذ ولكي تصبح الذاكرة حيةً وقادرة على الاستنتاج والمقارنة والوصول إلى نتائج، تحتاج إلى جهد بحثي دائم، ومحاولة النظر إلى الأمور من وجهة نظر سياقها التاريخي. ولكن عند العرب يستطيع من يشاء أن يتلوّى بين المواقف كما يشاء، لأن العدو الرئيس للأنظمة كان، طوال الوقت، المعلومات، بشأن أي موضوع، مهما كان تافها، والإحصاءات والدراسات الميدانية. لذلك بقينا في إطار العموميات، ما هو التاريخ السوري الحديث مثلا؟ هو نظام حكم برلماني ضعيف، ثم انقلابات مدانة، ثم "البعث" في انقلاب غير مدان، ثم تعثّر "البعث"، فجاء حافظ الأسد، عندها لم يعد هناك تاريخ.
أسوأ ما نفعله عادة هو رفض فهم أي موضوع وفق سياقه التاريخي، ومقدّمات حضوره. وبهذا نفشل في تفنيد تصريحات أصدقاء الشعب السوري، ونفشل في وضع تصرّفاتهم على سكة الحقيقة، من حيث مقدار صدقها أو نبلها معنا، ونفشل في خروجنا من عباءة الفساد والبيروقراطية والفشل السياسي والدبلوماسي التي غرقت بها المعارضة السورية، لنفشل في طرح فكرة للنقاش مع الصديق الأكبر والأهم للشعب السوري، لخوفنا من غضب الصديق، وغضب الصديق أشدُّ وطأة ورعباً من العدو هنا.
قبل 160 عاماً، قال جورج برنارد شو "هو لا يعرف شيئا ويظن أنه يعرف الكثير. إذاً فهو يمتهن السياسة"، وجاء اليوم سوريون ليبعثوا الحياة في مقولة برنارد شو.