الدولة حين تقتل أبناءها

الدولة حين تقتل أبناءها

11 نوفمبر 2014
+ الخط -

كان طالباً لا يتجاوز السادسة عشرة، من أسرة فقيرة تسكن إحدى عشوائيات القاهرة، يشيد المدرسون بذكائه وتفوقه دائماً، ولكنّه كان مصدر إزعاج لهم بسبب تأخره في دفع المصارف نظراً لظروف والده المتردية. أثناء عودته من المدرسة، وقبل أن يصل إلى المنزل ببضعة أمتار، سمع صياحاً صادراً من منزله، ميّز الصوت، وتأكد أنه صوت والدته، هرع الطالب ليطرق الباب، فتح والده، وسحبه بعنف إلى الداخل، وأوصد الباب بقوة، كاد الطالب أن يسقط أرضاً، وجد والديه يتشاجران كالعادة، وكعادة كل شجار بينهما يقوم والده بتعنيفه من دون ذنب، لكن تلك المشاجرة تبدو الأغرب من نوعها.

كانت الزوجة ترى أن البلاد لا يوجد فيها مجال لتحقيق رغباتها وطموحاتها، فألحّت على زوجها أن يسافر خارج البلاد هرباً من الفقر والدَّين الذي يحاصرهم طيلة الوقت، لم يستطع الزوج تأمين عقد عمل في الخارج، ولم يسعفه القدر بوظيفة كريمة داخل البلاد، فشعر باليأس من العمل غير المنتظم وأعباء المعيشة، ونتيجة دمار حالتهما النفسية احتدم الشجار ذلك اليوم، فطالبت الزوجة بالطلاق، وقررا الانفصال نجاةً من ضنك الحياة، غير عابئين بمستقبل ابنهما الصغير.

ذهب الزوج بحضور ابنه وجدّته المسنّة إلى المأذون حتى يبتر زواجه بالطلاق، وفي مكتب المأذون ألقى كلاهما أخطاءه على الآخر، وتبادلا الشتائم المقذعة كعادتهما حين يكونان في المنزل، فصل بينهما المأذون والعاملون في مكتبه، وبعد أن هدأوا جميعاً، بادر المأذون إلى الصلح بينهما، لكن محاولته باءت بالفشل، وقضي الأمر بالطلاق.

عند دفع أتعاب المأذون، نشبت مشادّة بينهما مرّة أخرى على من الذي سيدفع للمأذون، أنهتها الجدة بدفع المبلغ المطلوب، ثم تجرّدا من إنسانيتهما ورفضا حضانة الابن، وأخذا يتهربان منه بتنصّلٍ بغيض، ولكن سرعان ما ضمّته جدته إلى صدرها وأجهشت بالبكاء، قائلة "سيبهولي وكل واحد فيكم يروح لحاله"، وبالفعل كل واحد فيهم راح لحاله.

عاش الطالب مع جدته المسنة الأرملة سوياً في شقتها العتيقة، وبمعاش زوجها البسيط الذي تنفق جزءاً منه للإيجار، وبالكاد تشتري علاجها الشهري، أقنع الطالب جدته أنه سيذهب في الصباح الباكر ليتعلم مهنة صناعة السجاد كي ينفق على دراسته ويساعدها في مصاريف العلاج، خرج مبكراً عابراً الطريق متجها إلى مكان العمل، تعرض لحادثة سير تسببت بإعاقة قدمه اليمنى، أصبح الطالب طريح الفراش إلى جانب جدته المريضة، التي ماتت حزناً عليه قبل مرور شهر تقريباً، بقي الطالب وحيداً في كرسيه المتحرك، بدأ يتواصل مع التضامن الاجتماعي والجهات المعنية لمساعدته، وهي أدنى حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنّ الدولة لم تحرّك ساكنا، صنع الطالب العفيف صندوقاً بكرسيّه المتحرك، وبدأ يتجول على كورنيش النيل يبيع الحلاوة كمصدر رزق بدلاً من التسوّل، حتى يشاء القدر وهو يعبر الكورنيش أن تصدمه سيارة مسرعة يلفظ على إثرها أنفاسه الأخيرة.
 
هذه قصة من قصص الظلم والقتل الممنهج لدولة فاسدة تساعد على التفكك الأسري وتشريد وقتل أبنائها، "نور عينيها" كما تعصف بحقوق وحريات المواطنين، وتساعد على انحرافهم وانتشار الجهل والمرض والجريمة، وليس شرطاً لهذا البلد أن يقتلك على متن (مركب – قطار - طيارة) أو يحرق قلبك على أولادك، على طريقة حادثة تلاميذ البحيرة، ولكن قد تقتلك جوعاً وقهراً وذُلا وقلة كرامة.

avata
avata
صالح شلبي (مصر)
صالح شلبي (مصر)