الدولة العربيّة حالة زبائنيّة

الدولة العربيّة حالة زبائنيّة

26 يونيو 2014

عطا محمد عدنان (Getty)

+ الخط -
يمكن القول إن ظاهرة "الحرب على الإرهاب" في معظم الأقطار العربية تحمل وجهين. الأول خارجي، تحاول فيه الدولة إثبات اندماجها في النظام العالمي وعدم تمرّدها عليه، والثاني داخلي، يمكن أن يمتدّ ويتّسع، ليشمل تصفية الخصوم السياسيين، وتعزيز الحكم الاستبدادي.
وبالمثل، كانت ظاهرة الانفتاح، أو اللبرلة، أو الإصلاح التي أعلنت عنها بعض الدول العربية منذ التسعينيات، وتحديداً بعد انهيار المعسكر الشرقي، كان الذي يحدث في معظم الدول العربية، في العقدين الماضيين، بغضّ النظر عن تسمياته على يد صانعيه، هو عملية "رسملة"، أو خصخصة للقطاع العام، تحمل رسالة للخارج، لكنها في الوقت نفسه، تحمل طموحات المتنفّذين فيها. غابت اللبرلة السياسية، وحضرت اللبرلة الاقتصادية، لأن المتنفذين يريدون ذلك. أي أن هذه الدول بقيت في المعسكر الشرقي سياسياً، بينما حاولت، اقتصادياً، أن تنتقل إلى المعسكر الغربي، وأنتج هذا التضارب قطاع أعمال ممسوخاً ومشوهاً.
لقد تغيّر معنى الانتساب إلى حزبٍ سياسيٍ في الوطن العربي، من كونه التزاماً وإيماناً وتضحيةً إلى كونه تكسّباً ونفعية، خصوصاً في ظل أحزابٍ تظل حاكمةً عدة عقود، كالحزب الوطني الديمقراطي في مصر، وتترك لخصومها العيش في كنفها في معارضة صورية غالباً. الانتساب إلى حزب حاكم في الوطن العربي كان يعني أنك تشقّ طريقاً إلى تسهيلات خاصة، في بيروقراطية الدولة المتضخمة. وبلغةٍ أوضح، كان هؤلاء (السياسيون/ رجال الأعمال) هم المفضَّلين كمتعهدين لمشاريع الدولة التي تريد أن تحرر اقتصادها، وتدعم القطاع الخاص، وتصنع له الفرص. هذه حالة تنقل فيها طغمة السلطة ونخبة الحزب الحاكم هيمنتَها من عالم الحكم والسياسة إلى عالم التجارة والأعمال. إنها تقفز إلى المجال الذي يمكن أن تنشأ فيه برجوازية مستقلة عنها لتزاحمها فيه، وربما تطوقها، أو تقصيها بالكامل، إن قاومت هذه البرجوازية.

تعود هذه الطبقة الطفيلية من عالم المال والأعمال إلى عالم السياسة، نصيراً مهمّاً ومؤثراً للوضع القائم ومدافعاً عنه. إنها، في الحقيقة، لا تدافع عن برنامج سياسي، أو إيمان أيدولوجي، إنها تدافع عن مصالحها. كان التقارب واضحاً بين الباحثين عن امتيازات في عملية "اللبرلة الاقتصادية" مع خطاب الليبراليين العرب الذين يواجهون الخطاب الإصلاحي المعارض والثوري، ليس بالتأكيد على شرعية الدولة فحسب، بل بالتأكيد حتى على شرعية ممارساتها.
إن اللبرلة الاقتصادية في حكم غير ديمقراطي وغير تعددي وغير مستقل السلطات تتحول عملية هدم للحدود بين العام والخاص. وعلى الرغم من كل العناوين البراقة، في هكذا مرحلة، يصبح العام مستباحاً لطغمة الحكم وشركائها، وبشكل شرعي وفي ضوء النهار. في مثل هذه اللبرلة الاقتصادية، تنشأ مجموعات مصالح تجد طريقها إلى مصالحها في الدولة، بسبب موقعها في جهاز الدولة، أو في الحزب الحاكم أو في كليهما. وفي مثل هذه اللبرلة الاقتصادية، يتحول القطاع العام إلى مطيّة هذه المجموعات إلى مصالحها الخاصة، وفي مثل هذه اللبرلة الاقتصادية تنشأ حالة "زبائنية"!
يساعد على نشوء حالة الزبائنية هذه تضخم القطاع العام في الدول العربية وتوسعه، ويلتهم هذا القطاع العام معظم أفراد المجتمع، عن طريق توظيفهم والتعاقد معهم، فيصير المجتمع دولتياً، ويجعل، أيضاً، الدولة، حتى في شرعيتها، تعتمد على بطريركية، تظهر فيها محتوية أكبر شريحة ممكنة من المجتمع، فتصير الدولة بذلك دولة مجتمعية، وهذه الحالة هي التي تجعل اللبرلة الاقتصادية تنتج قطاع أعمال ممسوخاً ومشوهاً.
هذه الزبائنية لا تُفرغ عملية اللبرلة الاقتصادية من مضمونها وغايتها فقط، بل إنها تحكم بالإعدام المحقق على المجال السياسي العام، حيث يُصبح الالتحاق بالحزب الحاكم مغرياً مهما كان، ويصير تبني خطاب السلطة ناجعاً، بغض النظر عن محتواه. الزبائنية تجعل الناس يلتحقون بالسياسة، ليس للاشتغال في المجال العام، بل لتوظيف العام لصالح الخاص، ولنهب القيمة المعنوية لهذا القطاع، بصفته ممثلاً للمصلحة العامة. تنساب هذه الزبائنية من الأعلى إلى الأسفل، لتخلق واحدةً من أهم الظواهر في المنطقة العربية، وهي ظاهرة موظفي القطاع العام الذين يمارسون أعمالهم الخاصة، وربما كانت أعمالهم الخاصة من نوع الأعمال التي تجعلهم متعهدين لجهات عملهم.
وممّا يعقّد مُشكل الزبائنية في الوطن العربي أنها تستطيع، مع مرور الوقت، اكتساب ديمومتها من نفسها، حيث يغذي طرفاها بعضهما بعضاً. نصبح حينها أمام قطاعٍ خاص يريد أن يتوسع ويلتقط مزيداً من الفرص، لكنه، في الوقت نفسه، يطالب بقطاع عام قوي ونافذ يحميه ويدعمه، ونكون، أيضاً، أمام قطاع عام يريد أن يكون توسع القطاع الخاص لصالحه هو أكثر من غيره.


 

7DCBCDF9-9B50-4782-AA8C-FEDA3F7106B7
نايف السلمي

مهندس صناعي وكاتب سعودي مهتم بالفكر و الثقافة في الوطن العربي، ومؤلف مشارك في كتاب "في معنى العروبة .. مفاهيم و تحديات".