الدوافع الحقيقية لخروج فودافون من مصر

الدوافع الحقيقية لخروج فودافون من مصر

08 مارس 2020
حصة فودافون بلغت نحو 42% من إجمالي السوق(Getty)
+ الخط -
تشير الإحصاءات عن سوق خدمات التليفون المحمول في مصر إلى توسع مستمر طوال العقدين الماضيين، إضافة إلى أرباح شديدة التنافسية مع غيره من الأسواق الإقليمية والدولية، مما يجعل قرار أي شركة بالتخارج من السوق المصرية محلاً للعديد من علامات الاستفهام، والتي قد تتحول إلى لغز يصعب على الفهم خاصة إذا كانت الشركة الخارجة بحجم فودافون البريطانية، والشركة العارضة شراء فودافون مصر هي شركة سعودية واجهت ولا تزال العديد من المشاكل المالية في موطنها الأساسي بالسعودية.

تحتل مصر المركز الـ15 في الترتيب العالمي لعدد المشتركين، حيث تجاوز العدد 94 مليون مشترك في منتصف عام 2019، أما عن حصص الشركات العاملة في السوق المصري فتستحوذ فودافون مصر على الحصة الكبرى منها بما يزيد عن 40 مليون مشترك، ثم أورانج بنحو 30 مليونا، ثم اتصالات مصر بنحو 20 مليونا، وفي المركز الأخير تأتي WE المملوكة لوزارة الدفاع المصرية بنحو 3.6 ملايين مشترك فقط. أي أن الحصة السوقية لفودافون بلغت نحو 42% من إجمالي السوق. وتمتلك الشركة المصرية للاتصالات 45% من أسهم الشركة.

وحققت فودافون مصر التي تعمل في مصر منذ أكثر من 20 عاما أرباحًا بقيمة 4.9 مليارات جنيه (280 مليون يورو) قبل احتساب الفوائد والضرائب بنهاية النصف الأول من العام المالي 2018-2019، مقارنة بـ 4.3 مليارات جنيه خلال الفترة ذاتها من 2018، كما أن الشركة تحقق أرباحا سنوية تقترب من النصف مليار يورو بصورة مستمرة، ولم تستطع شركة أخرى زحزحتها من موقعها في السوق رغم دخول رخصة العمل الجديدة لشركة WE.

ومنذ أيام أعلنت فودافون عن توصلها لاتفاق مع شركة الاتصالات السعودية STC التي هي أكبر مشغل للهاتف المحمول في المملكة، والتي يمتلك صندوق الاستثمارات العامة السعودي معظم أسهمها، لبيع حصتها في فودافون مصر والبالغة 55% من أسهمها مقابل 2.4 مليار دولار، مع بقاء العلامة التجارية للشركة، إضافة إلى عدم تغيير الهيكل الإداري والبالع 8700 عامل، وبررت الشركة البريطانية التخارج بالسعي إلى التركيز على الاستثمار في خدمات الجيل الخامس في الأسواق الأوروبية.

وكما قلت تعاني شركة STC العديد من المصاعب في السوق السعودية، ومع مواجهة الشركة تلك المصاعب، فربما لن تستطع إعادة رأس المال المدفوع في الصفقة المصرية لمساهميها في المملكة، بالإضافة إلى عدم القدرة على تحقيق الأرباح، وببساطة من يضمن لها أن المستهلك المصري سيقبل الانتقال إليها حتى لو أبقت علي هوية وشعار فودافون.

الأسباب الحقيقية للخروج

عموما تشير الأرقام السابقة إلى رسوخ قدم الشركة البريطانية في السوق المصرية، وأن ثمن صفقة بيع وحدتها في مصر لا يتخطى كونه أرباحا فعلية لأربع سنوات قادمة، والتذرع بالتوسعات في الأسواق الأوروبية يتنافى تماما مع سعر الفائدة المنخفض للغاية في تلك الأسواق والتي ولا شك ستفتح ذراعيها لأي طلب اقتراض من العملاق فودافون، وكل ذلك يدفع إلى التساؤل حول الأسباب الرئيسية لتخارجها من مصر.

تشير الكثير من التقارير إلى وجود خلافات بين الشريكين فودافون مصر والمصرية للاتصالات التابعة للدولة منذ قررت الأخيرة الشراكة مع شركة منافسة جديدة هي شركة WE، وهو ما يتنافى مع أبسط قواعد الشراكة المتعارف عليها، حيث تضارب المصالح الواضح من امتلاك حصة رئيسية في شركة ومنافستها في نفس الوقت بامتلاك حصة رئيسية في شركة أخرى تعمل بذات المجال.

كان غضب واعتراض الشركات العاملة في مجال المحمول في مصر ومن بينها فودافون وموبينيل على الرخصة الرابعة WE يملاً الصحف، لاسيما بعد وضوح نية وزارة الدفاع في امتلاك الحصة الكبرى من الشركة الوليدة.

وأدى ذلك إلى بيع نجيب ساويرس كامل حصة شركته "أوراسكوم للاتصالات" في "موبينيل" بشكل تدريجي حتى نهاية عام 2015 لصالح "أورانج" الفرنسية، مقابل 7.4 مليارات جنيه تقريبا، وكان لهذا الانسحاب دلالة مهمة ومؤكدة على اتجاهات السيطرة المتوقعة.

وتزامن ذلك مع رفض شركات المحمول الثلاث لمشروع الرخصة الموحدة الذي طرحته وزارة الاتصالات، وبعدها مباشرة تم منح المصرية للاتصالات الرخصة الرابعة بشكل رسمي، مع منحها ترددا جديدا يعمل لأول مرة بمصر وهو تردد "700 ميغا هيرتز" ليكسبها ميزة تغطية مضاعفة من حيث المساحة الجغرافية، إضافة إلى اعتماد الشركة الجديدة على أبراج ومحطات الشركات الثلاث والبالغ عددها نحو 25 ألف محطة لتقديم خدماتها إلى الجمهور.

شركة بلا أصول

أي أن الشركة الجديدة لا تملك شبكة خدمة ولا تنوي إنشاءها في المستقبل وستعتمد في تقديم الخدمة على إيجار المحطات القائمة، أي أنها ببساطة وسيط أو سمسار يهدف إلى السمسرة دون عناء بناء شبكة خاصة جديدة تقدر تكلفتها بأكثر من 15 مليار جنيه، وتحتاج إلى وقت قد يمتد إلى أربع سنوات حتى اكتمالها، واضطرت الشركات إلى الموافقة بعد أن صدرت الرخصة للشركة الجديدة رسميا، ولكي تضمن عدم عرقلة مصالحها بعد أن اتضح جليا نية وزارة الدفاع الدخول إلى سوق الاتصالات.

وزادت الأمور تعقيدا حينما شرعت "المصرية" للاتصالات" في تغيير خطوط الهاتف الثابت من الكابلات النحاسية إلى "فايبر" الياف ضوئية والتي تتحمل سرعات الإنترنت الفائقة، مع قصرها استخدام هذا النوع من الكابلات، ومن ثم تقديم خدمات الإنترنت السريعة على "تي إي داتا" التابعة لها فقط، فيما يشبه إجبار عملاء الشركات الأخرى على التحويل إلى "تي إي داتا" في عملية "احتكار"صريحة لخدمات الإنترنت المصرية، وهو ما تسبب في تقليص حصة الشركات الثلاث في سوق الإنترنت الثابت كاملا إلى أقل من 30% فقط، الأمر الذي تسبب في الكثير من الخسائر لتلك الشركات.

مضايقات مستمرة

السرد السابق يوضح حجم المضايقات والتحجيم الذي تعرضت له شركات المحمول في مصر، ومن الطبيعي أن ينال فودافون البريطانية ذات الحصة السوقية الكبرى النصيب الأكبر من المضايقات، وبالتالي الخسائر، ومن المنطقي بعد كل هذا أن تفكر في التخارج من مصر، سعيا إلى أسواق أخرى أكثر استقرارا وربحية، ولا تتنافس فيها الجهات السيادية بصورة احتكارية مع بيئة الأعمال.

من المؤكد أن تخارج فودافون من مصر خسارة للمواطن المصري، حيث أموال الشركة ذهبت إلى لندن حيث مقر البائع، ولن يضيف الشريك الجديد استثمارات جديدة في ظل سيطرة الجهات السيادية على سوق الاتصالات، بالإضافة إلى احتكار المصرية للاتصالات لبعض الخدمات وعدم السماح للشركات الأخرى بتقديمها.

كما أن تخارج فودافون مصر يضر بالمستهلك المصري، فبعد أن كانت معلوماته وبياناته الشخصية في ظل شركة عالمية تخاف على سمعتها العالمية والمحكومة بالقواعد والقوانين الدولية أصبحت في حيازة الشركة السعودية الجديدة وغير معروفة أو محددة نوعية القواعد الحاكمة للخصوصية في هذا الشأن، أي أنها أضحت ببساطة محل استهداف مؤكد، ولا يوجد من يضمن أو يستطيع حماية تلك البيانات، في ظل التماهي الأمني المطلق بين الإدارتين المصرية والسعودية.

الأمر الذي قد يدفع متلقي الخدمة المصري إلى رفض تحويله التلقائي إلى المشغل السعودي الجديد للخدمة، وقد يبحث عن التغيير إلى شبكات أخرى تضمن له بعض الخصوصية في البيانات، ومما يدلل على ذلك أن WE المملوكة جزئيا لوزارة الدفاع لم تنجح في جذب حصة سوقية تذكر، أقل من 4 ملايين مشترك حتى الآن، أي اقل من عشر حصة فودافون مصر.

أثار سلبية خطيرة

ويمتد الأثر السلبي لتخارج فودافون من مصر إلى نشر صورة سلبية عامة عن مناخ الاستثمار الأجنبي في مصر، وهو المناخ الذي تأثر بشدة بعد هيمنة الجيش على النشاط الاقتصادي للبلاد خلال الفترة الماضية، ومزاحمته للقطاع الخاص، رغم تبني الدولة لروشتة صندوق النقد الدولي النيوليبرالية، هذه المزاحمة التي أدت إلى تقلص مستثمر للاستثمارات الأجنبية الواردة إلى مصر خلال الأربعة أعوام الماضية، وإلى تركزها في قطاعات الاستخراج والتعدين فقط دونما بقية القطاعات.

سبق خروج فودافون من السوق المصرية توالي خروج العديد من الشركات الأجنبية العاملة في مصر خلال الأعوام الماضية، وتراجع إيرادات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر والذي يمثل رافدا هاما للنقد الأجنبي في البلاد، مما يدفع المخلصين إلى التساؤل حول الأسباب الحقيقية لمثل تلك التخارجات، وعن ماهية الخطط والإجراءات الواجبة لإصلاح المناخ الاستثماري في مصر، ولعل مقولة ابن خلدون والتي عنون بها أحد فصول كتابه المقدمة " التجارة من السلطان مضرة بالجباية مفسدة للرعايا" تصلح كنصيحة لمن يهمه الأمر.

المساهمون