الدكتاتورية الفكرية

الدكتاتورية الفكرية

01 مايو 2018

زينة القصراوية: لا أنوي الغناء إلى آخر يوم

+ الخط -
كاد أن يمر في تونس تصريح عادي لفنانة شعبية من دون تعليق، إلا أن ردود إعلاميين ومثقفين حوّله إلى مصدر إثارة للرأي العام، حيث انقسم التونسيون بين مؤيد ومعترض.
ماذا قالت هذه السيدة التي يحبها كثيرون؟ ذكرت باختصار أنها لا تنوي أن تبقى تغني إلى آخر يوم من حياتها، وتأمل الاعتزال عندما تصبح قادرةً على تأمين استقرار عائلتها، خصوصا أن "صوت المرأة عورة" بحسب ما قيل لها، وبحسب ما اطلعت عليه في القرآن الكريم. وأضافت أنها اضطرت لدخول عالم الفن بسبب الفقر المدقع الذي عاشت فيه منذ طفولتها.
هذا كل ما قالته زينة القصرانية. عبّرت عن قلقها الاجتماعي والثقافي، وأعادت ما قالته كثيرات من زميلاتها في تونس ومصر وغيرهما. قالت إنها غير مرتاحة في أعماقها، وتريد أن تتصالح مع نفسها، ولا تريد مواصلة مسيرتها الغنائية إلى آخر أيام حياتها. هذا رأيها، وهي حرّة في حياتها. لم تستفز أحدا، ولم تتجاوز حريتها الشخصية وحقها في التعبير. ولم تبادر بهذا، وإنما أجابت بعفويةٍ على سؤال أحد المنشطين. ولم تدع زميلاتها إلى الانقطاع عن الفن، ولم تنتم إلى أي جماعة، ولم تعلن الحرب على الفن والفنانين. تحدثت فقط عن تجربتها الشخصية، وعن حياتها الخاصة، فهل من شأن ما جاء على لسانها أن يبرّر الهجمة القوية التي تعرّضت لها، وكادت أن تنسفها نسفا؟
قيل في حق هذه المرأة ما لم يقله مالك في الخمر. وبلغ ببعض من هاجموها بشراسة أن اتهموها بالدعوشة، أي التأثر بأفكار "داعش" (!).
المسألة أعمق بكثير مما تظهره الصورة. الحالة في تونس مركبة وشديدة التعقيد. المجتمع التونسي كائن لا يزال يجهله جزء واسع من نخبته التحديثية، فالمعركة المستمرة مع السلفية وحركات الإسلام السياسي غيبت حقائق ومعطيات واقعية كثيرة، ما جعلت مثقفين كثيرين لا يدركون أن معظم جهودهم منصبةٌ على مقاومة النتوءات البارزة من جبل الثلج، في حين أن ما تخفيه المياه العميقة أكبر مما تراه العين وأضخم. لا يتأثر الفكر كثيرا بجهود الأجهزة الأمنية أو بالحملات الإعلامية، بل قد يزداد انغراسا وينزل إلى ما تحت السطح. نعم نجح الأمنيون في إفشال مخططات الجماعات الإرهابية التي هدّدت ولا تزال الدولة والمجتمع، ولولا هذه الجهود الضخمة لانهارت الأوضاع في البلاد، فحتى القادة الأمنيون يعلمون جيدا أن المعركة مع هذه الجماعات، ومع أفكارها ومزاعمها، تحتاج إلى جهود إضافية عميقة، يقوم بها السياسيون والهياكل الدينية والثقافية ورجال الأعمال وغيرهم. لهذا هناك من خافوا مما قالته هذه الفنانة من أن ينسف جزءا من الجهود التي بذلوها منذ سنوات ضد الفكر السلفي، وهنا جزء مهم من الإشكال.
حذار من خلط الأوراق والمجالات. ليس الحقل الديني سلة واحدة. هناك المجال الشخصي وهناك المسارات الجماعية. هناك الإسلام السياسي، ويقابله التصوف الذي ينقسم إلى تجارب يجمعها حبّ الله، ويميزها تعدد السبل والمفاهيم والمحاولات الشخصية أو المنظمة.
صوت المرأة ليس عورة، ولو كان كذلك لما مدح القرآن سيداتٍ عديداتٍ خاطبن مجتمعاتهن بكل قوة وثقة. هناك من يروّج هذا الادعاء، من أجل عزل النساء، وتحويلهن إلى كائنات جنسية وهامشية. ولكن ما ينساه بعضهم، أو يتجاهلونه، أن مصادر ترويج هذه الخطاب متعددة، وليست مرتبطةً فقط بالدواعش، أو من لفّ لفهم. هناك ثقافة شعبية مليئة بمثل هذه الإيحاءات السلبية.
يجب احترام الحريات الفردية، وحق كل فرد في أن يعيش حياته كما يريد، اتفق مع النخبة أو لم يتفق، وأيدته الأغلبية أم لم تؤيده. لكل مساره رؤاه، ولا يحقّ لأي كان أن يمارس سلطته وعنفه الرمزي على الآخرين، لمجرد أن تعارضت اقتناعاتهم مع نظرته إلى الوجود.
على الجميع أن يسلموا بحقيقة أساسية، أن المجتمع التونسي متعدّد، وأنه لا يزال يشكو من سوء فهم النخب له.