الدراما المغربية: تحوّلات الشاشة الصغيرة وآلامها

ابتعد الإنتاج الدرامي عن الشارع وهواجسه (Getty)
07 اغسطس 2020
+ الخط -

تبدو الدراما التلفزيونية المغربيّة منذ بداية الألفية الجديدة وكأنها مصابة بانحسار إبداعيّ وفنيّ، ومُتشابهة من حيث منطلقاتها الشكلية والموضوعية والفنية، بالرغم من تنوّع البيئة المغربيّة وفرادة ألوانها ولهجاتها وعاداتها وتقاليدها وفنونها.

لم يستطع التلفزيون المغربي صنع صورة فنية متخيّلة، تتميّز ببعض الإبدالات المفاهيمية والفنية على مستوى الشكل والموضوع، تُراعي خصوصيات التاريخ والمرحلة السياسية والاجتماعية التي ننتمي إليها داخل المغرب، بكل كذبه وحقيقته وأحزانه ومسراته، فتكون بذلك الصورة التلفزيونية قد راعت خصوصيات مفهوم الصورة علمياً، كما تبلور داخل كتابات غربية والمُرتبطة أساساً بالسياق السياسي الذي ترعرعت في حضنه هذه الصورة، كما هو الشأن في عدد من الأعمال التلفزيونية الرائدة والمتواضعة تقنياً التي ظلّت تُمثّل علامة حب للمغاربة، وهم يقبلون على مشاهدة هذه الأعمال الدرامية التي توغلت إلى قلوبهم منذ نهاية الثمانينيات إلى حدود نهاية التسعينيات، فكانت هذه اللحظة وكأنها نهاية حياة فنية شامخة داخل المغرب ودخولها إلى منطق المال والولاء لبعض المؤسسات والجهات الوصية على قطاع السمعي البصري.

بعد التسعينيات كأن مسلسلات المغرب دخلت منطق المال والولاء للمؤسسات والأوصياء

هكذا، لم يعُد المخرج مسؤولاً ولا وصياً على مسلسله، بل يتم تدبيجه وتوليفه وفق مخططات هذه المؤسسات، هكذا تُحذف الكثير من المشاهد داخل هذه المؤسسات، فقط لأنها تنتقد ولا تُماري، فتُصبح هذه المسلسلات معاقة وساذجة ولا تحترم تقنياً حتى تراتبية الصورة. وهذه الأخيرة، لم تعُد تلتقط تفاصيل غير مطروقة من داخل حياة المغاربة داخل بلدهم، بل هي تعبير عن واقع آخر مُستلب، يتبدى للمُشاهد منذ الحلقة الأولى أنه ليس واقعهم ولا تاريخهم ولا مواقفهم ولا حتى تطلعاتهم التحرّرية، بحكم التأثير البارز داخل هذه الدراما من لدن مسلسلات أجنبية، يبدو جلياً وواضحاً على طبيعة وأنماط هذه الصورة. هكذا، تتحوّل بعض المشاهد الرومانسية البكائية المقتبسة داخل الدراما المغربيّة إلى مشاهد مُضحكة بالنسبة للمغاربة، بحكم الانفلات الجمالي والاختلافات الجوهرية التي تمسّ سياق المَشاهد ومنطلقاتها ووقعها على كل مجتمع.

على الرغم من الفقر المُدقع الذي استبدّ ببعض المخرجين والمخرجات خلال ثمانينيات القرن الماضي، في إمكانية التوفر على أدوات التصوير ومعداته وغيرها، استطاع هؤلاء تمتيع المُشاهد المغربي بمشاهدهم البسيطة تقنياً، لكنها غزيرة على مستوى خطابها الفكري والسياسي والاجتماعي، إذ لعبت هذه الأعمال الدرامية دوراً كبيراً في إرسال إشارات ضوئية عن مرحلة عصيبةكان المغرب مُقبلاً عليها سياسياً، كاشفةً في مُتونها الدرامية عن الصراع الطبقي الحقيقي المُحتدم داخل مجتمع تقليدي سليل طبقة سياسية هجينة موروثة عن الحركة الوطنية.

هكذا، جاء مثلاً مسلسل "دواير الزمان" (2000) لفريدة بورقية، ليسلّط الضوء على تداعيات السياسة في التأثير على بنية المجتمع وطبقاته المسحوقة والمتوسطة داخل مغرب التسعينيات، فقد أصابت المخرجة في عملها المُتواضع هذا وصولاً إلى النفاذ بقوة إلى مكبوت في المجتمع في ذلك الوقت وتهديمه عن طريق جملة من الرسائل والخطابات الذكية المُضمرة على مدار حلقات المسلسل. لكن هذا التهديم لم يكُن اعتباطياً ولا حتى لذاته وفي ذاته، بقدر ما هو ينمّ عن تملّك فنيّ من لدن المخرجة وقدرتها على استكناه المتواريات البصرية والمسكوت عنه داخل السياسة والاجتماع في مناطق بدوية من المغرب المنسيّ، بحكم عدد القضايا المركزية التي شغلت الرأي العام في ذلك الوقت، وما تزال، مثل الصحة والمرأة والتعليم والعمران والسلطة، وغيرها من الموضوعات الأثيرة والبارزة في ثنايا المسلسل.

"دواير الزمان" مسلسل متواضع سلط الضوء على تداعيات السياسة في التأثير على بنية المجتمع وطبقاته

بالتالي، فإنّ المخرجة كانت من أوائل المخرجات المغربيّات اللواتي اعتمدن تنوّع الموضوعات الفرعية المُحيطة بالحكاية المركزية، فتصبح هذه الفروع القصصية هي من تبني عوالم الحكاية الأصل، وهذا الأمر، يزيد صعوبة المخرج ويصبح مفهوم الصورة مُتشعباً وبلورياً متعدّد الأضلاع. كل صورة ليست مستقلة عن الأخرى، وإنما هي لها علاقة مباشرة بالصورة التي تسبقها أو التي تأتي بعدها، بسبب الزخم والفسيفسائية التي تطبع المجتمع المغربي وتركيبيته على حدّ تعبير عالم الاجتماع بول باسكون.

والحقيقة أنّ هذا الأمر لم يكُن مرتبطاً فقط بجزالة الصورة والموضوع، وإنما بمشروع مجتمعي تبناه مخرجون دراميون مغاربة، آمنوا بضرورة التحرّر من سُلطة الاقتباس من المسلسلات المصرية خاصة، بحكم الجدار الواقعي المنيع الذي وجد هؤلاء أنفسهم أمامه، إذْ إنّ الواقع الذي ظلوا يتخيّلونه في هذه المسلسلات المشرقية ليس هو ما يعيشونه أمام زحف الديني وتضخمه في حياتهم، هذا إضافة إلى دبابات السُلطة، فكانت هذه المسلسلات التجريبية تُشكّل إرهاصات أولى وأخيرة لمشاريع فنية ستجهض بعد سنوات، ولم تكتمل إلى حدود اليوم، بسبب الانتكاسة الحقيقية التي أصابت قطاع الدراما في المغرب منذ الألفية الجديدة، واتجاهها صوب الترفيه والاستهلاك، ومنطق الجمهور "عايز كده"، وسياسات وأجندات المؤسسات الإنتاجية وندرة توزيع.

منذ الألفية الجديدة اتجهت الدراما المغربية صوب الترفيه والاستهلاك ومنطق الجمهور "عايز كده"

كل هذه العوامل جَعَلت من الدراما المغربيّة الجديدة غائبة فنياً وجمالياً داخل الساحة العربيّة، أمام بروز دراما جديدة في العالم العربي، تعمل جاهدة على خلق الحدث الفني، مُحاولة تجديد نفسها وضخ دماء جديدة في شرايينها الإبداعية والجمالية ومؤسساتها الإنتاجية، كما هو الأمر في الدراما السورية الجديدة.

مشكلة السيناريو في الأعمال الجديدة راجع إلى أزمة قراءة وثقافة

 عامل آخر ساهم في جماليّات هذه المسلسلات الدرامية المغربيّة القديمة يتمثّل في قوة السيناريو، فهؤلاء الذين كتبوا تلك الأعمال ليسوا مخرجين فقط ولا حتى تقنيين أو مسؤولين عن التصوير والمونتاج كما يحدث اليوم، وإنما هم أدباء ومثقفون، ما جعل مفهوم السيناريو لديهم أشبه بهّمٍ مجتمعيّ واعتكاف دائم على التأليف والتخييل والاستماع إلى نبض المجتمع المغربي سياسياً واجتماعياً، فكانت هذه الكتابات الدرامية ناجحة جداً، لأنها ظلّت نابعة من قناعة فنية مجتمعية، وليس الجري وراء ريع المؤسسات ودعمها السخيّ الذي باتت تمنحه إلى بعض الكتابات الهزلية والهجينة لغة وتصوّراً لطبيعة المفردات والحوارات والخطابات الواردة داخل السيناريو، سواء بالنصوص الدرامية التلفزيونية أو حتى السينمائية. وبالتالي، فإنّ مُشكلة السيناريو داخل هذه الأعمال الدرامية الجديدة، راجع بالأساس إلى أزمة قراءة وثقافة، قبل أنْ تكون أزمة إبداع وتخيّل أو دعم شحيح يشكو من المخرج أو كاتب السيناريو، فكيف يجوز كتابة مشروع مسلسل دراميّ، من دون معرفة حقة بطبيعة المجتمعات العربيّة وسياساتها وأنسجتها الاجتماعية؟

المساهمون