الخطاب بين الجلاّد والضحية

أيُّ خِطَابٍ قد يُساعدنا تحليلهُ وتِبْيان مَضامِينه على رؤية أنفسنا كما نحن بالواقع، بلا تضخمٍ أو انكسارٍ أو تشوّه؟ فصورتنا بالمرآة هي التي تُشَكِّلُنا، وبطبيعة الحال سنتخِذُ مواقفنا، ولاحقاً ستنبع سلوكياتنا من تلك الصورة التي شَكَّلتنا أول مرة. فهنالك، بالعموم، خِطَابان رئيسان، الخطاب العلمي والخطاب الشعبي.
يعتمدُ الأول اللغةَ الفصحى والتاريخ المكتوب والمُدَّون، والآخر تتناقله اللغةُ العاميَّةُ شفاهةً. تحت الأول، تندرج كل معارفنا وعلومنا، وكل ما تزوّدنا به مدارسنا وجامِعَتنا ووسائلُ إعلامنا ومكتباتنا. أمَّا الثاني، فتندرج تحته حكايا الجَدَّات والأساطير والأمثلة الشَّعْبيَّة ولغة الشارع بشكلٍ عام، وما تُسرُّ بهِ الأُمُّ لابنها، قبل دخوله المدرسة بشكلٍ خاص. وإنْ كان الخِطَابُ العلمي الذي يدّعي امتلاكه الحقيقة، أو، في أحسن الأحوال، سَعْيَهُ لطلبها، لم يُعْيِنا بعدُ، بعد كل هذا التَّقَدُّم الكبير الذي أحرزناه في مجالات العلوم كافةً، فأين هو مَكْمَنُ خطئنا وما السبب وراء ذلك كله يا ترى، أهي لغة الضاد العتيدة التي نتباهى بها، فلا نرى العالم إلاَّ من خلالها: خيرٌ وشرٌّ، ذكرٌ وأنثى، عقلٌ وجنون، علمٌ وخرافة، أمْ ماذا؟
وعلى المنوال نفسه، يمكننا طرح الأسئلة حول المنهج الذي يُناسِبُ مُجتَمعاتِنا وحاضِرنا، بدلاً من اعتماد مناهج حديثة لا تمتّ، بالضرورة، بصلةٍ لواقعنا. فعلى سبيل المثال، اسْتَحْضَرَ مصطفى حجازي، في عملهِ المُعنْون "الإنسان المهدور"، منهجاً يعودُ إلى ستة قرونٍ خلتْ، هو منهج ابن خلدون في العَصبِيَّات، لدراسة واقعنا وتشريح معضلاته، بدلاً من الاكتفاء بمناهج علم الاجتماع الغربي الحديث. وبدوره، تَحَدَّثَ شتراوس في عمله "الفكر البريِّ"، عن طريقة تفكيرٍ قديمةٍ ومغايرةٍ تماماً لطريقة تفكيرنا كانت سائدةً في زمنٍ غابر، مُستشهداً بعبارةٍ لشعبٍ بَدائيِّ يُدعى الشينوك، الذين قطنوا شمال غرب أميركا الشِّماليَّة. العبارة: شَرُّ الرجل قتلَ مَسْكَنةَ الولد. وفي ذلك ما يَتناقضُ مع طريقة تفكيرنا، نحن الحضاريين، حين نقول: الرجلُ الشِّرِّيرُ قتلَ الولدَ المسكين.
في تلك اللغة البَدائِيَّة، لا تقع مَسؤوليَّة الجُرْم على الرجل، بل على الغائب الذي هو عامٌ ومُجَرَّد، أي الشَّر. فإذا أَرَدنا استخدامَ طَريقَة التَّفْكيرِ تلك، البَدائيَّة، في حديثنا عمّا يقع في سورية، الآن، سوف نجدُ أنفسنا مُضْطَرِّينَ لِصياغَةِ العبارة كالآتي: شَرُّ حفيدِ الضَّحِيَّة قتلَ مَسْكَنة حفيد الجَلاَّد.