الخروج من التاريخ

الخروج من التاريخ

30 مايو 2017

(منير الشعراني)

+ الخط -
لم يعد من الضروري انتظار نهاية التاريخ للخروج منه، كما لو كنا في قاعة سينمائية اسمها العالم، شغلنا أضواءها، وطلبنا من الحضور المغادرة.
يمكن للتاريخ أن يظل قائما وتنسحب منه الدول، والأمم، جماعات أو زرافات، من أبواب عديدة، يبدو أن التاريخ يتركها مفتوحةً لكل غاية مفيدة.
في كتابه الجديد، والذي أعقبه بحوارات عديدة "كيف أصبحنا أميركيين"، أعلن الفرنسي ريجيس دوبريه خروج أوروبا من التاريخ، لا لشيء إلا لأنها سمحت لأميركا بأن تعوّضها، وتملي عليها هويتها واستراتيجيتها، فالقارة العجوز لم تزحف للخروج، بل هي تغادره بما يشبه العماء السيادي "الذي يقودها خارج التاريخ" الهيغيلي، والكانطي والماركسي، وما شئنا من الوصفات الفلسفية، وهي لم تنتحر، بل خرجت من التاريخ، لأنها أصبحت أميركية.
ليست هذه القناعة خاصة بالرجل الذي سبق له أن غادر أوروبا إلى القارة الأميركية، حيث كان رجلاً ثائراً أشعث الرأس، ويمجّ سيجارا كوبيا طول الوقت، اسمه أرنستو غيفارا، يصنع تاريخ العالم الجديد، بل يشترك فيه معه أيضا جاك أتالي الذي رابض في باريس ووسط نخبتها، غير آبهٍ بكل الثورات التي يرضى منها بالجلوس إلى جانب اشتراكيي فرنسا، أيام الراحل فرانسوا ميتران، داخل القفص الجمهوري المذهب بـالإليزيه.
يعطينا جاك أتالي إمكانات عديدة لهذا الخروج، أو بالأحرى منافذ عديدة على الطريق السيار الذي دخلته البشرية منذ عهد هوميروس، فالخروج من التاريخ قد يعني عنده الخروج من جغرافيا المركز، أي أن يتأرجح المركز، وينتقل من أوروبا إلى آسيا، ومن المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ.
وقد يكون الخروج أيضا عبر ضياع حافظة النقود التاريخية، بفقدان أهم الأسواق الاقتصادية والاستهلاكية، من الـماكدونالد إلى صناعة السيارات، وبالتالي ضياع التنافسية الاقتصادية.
خروج التاريخ يمكن أن يتابعه المواطن الحاضر، وهو يرى النخب غير قادرة على أن توجد في مركز القرار، ويسوق مثالا على ذلك إقصاء أوروبا من اتفاقيات كوبنهاغن، وشراء شركة صينية "فولفو"، أو متابعة الكوريين وهم يفوزون بصفقة المحطات النووية في أبو ظبي.
والمسلمون، بعد أن تخرج أوروبا من التاريخ؟
المسلمون أيضا يخرجون من التاريخ، لأنهم، بكل بساطة، يريدون القيامة.
ومن مصادفات هذا الخروج الذي تزامن مع تنبؤات ريجيس دوبريه، صدور كتاب صاحبة الأيام الأخيرة لمحمد، لصاحبته التونسية، هالة وردي، وتكتب تقول بالتحديد عن الحاجة إلى محاولة إعادة الإسلام إلى التاريخ، أي إلى زمن العالم، كما عرفه جاك بيرك، ذلك لأن الأصولية الدائمة تثبت أن الجذور التاريخية للإسلام تضيع وسط الرمال المتحركة للدوغمائية. يريد المسلمون من الإسلام أن يسجن نفسه في تمثل مطلق، ويكتفون من التاريخ بأوهام الأبدية والعصمة المعلقة.
إنهم يتقدّمون، باعتبار أنهم لا يتحملون زمنيتهم البشرية نحو طريق الخروج من التاريخ.
هذا الخروج تقارنه صاحبة الكتاب بلحظة وفاة الرسول الأعظم، باعتبارها لحظة صادمة، عَنَتْ التفاوض مع نهاية التاريخ.
ومن الخلاصات الأساسية أن المقتضيات اللاهوتية الجديدة للحرب المقدسة التي تخوضها الأصولية، بكل تلاوينها، هي تقديم الإسلام باعتباره ديانة نهاية التاريخ.
ومعنى ذلك أن بحث بعض المسلمين، أو على الأقل الذين يصنعون تاريخ الإسلام اليوم، هو بحث عن عودة الأصول، بما هي تفاوض للخروج من التاريخ، فنحن ما زلنا نعيش وفاة الرسول الأعظم رسالة نهاية للزمن.
ولعل الأبرز في هذا المسار الذاهب إلى النهاية هو الحلم بالخلافة الرشيدة، باعتبارها نظاماً يواصل النبوة.. وكذا مؤسسة سياسية معصومة لا تصل إليها النسبية البشرية، كما لو أنها الميلاد السياسي للإسلام.
ويفهم من هذا السعي أن البحث عن الخلافة الضائعة يقتضي الرجوع في الزمن، أي الخروج من التاريخ، والعودة إلى أصل الإسلام بعد وفاة الرسول الأعظم.
والواضح أن أوروبا تخرج من التاريخ، لأنها تسعى إلى أمركة نفسها، على مضض، أما نحن، فنحلم بهذا الخروج، كما لو أن الدين هو عقيدة نهاية التاريخ، وليس العيش فيه.
768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.