الخرطوم .. عاصمة ابتلعت دولة

الخرطوم .. عاصمة ابتلعت دولة

01 سبتمبر 2014

مشهد في الخرطوم بعد أحد الفيضانات (أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -

لا أظن أن عاصمةً ظلّت "تشفط" سكان الأرياف، بصورة مضطردة، لتودعهم جوفها الذي يتّسع بلا نهاية، مثلما فعلت العاصمة السودانية، الخرطوم، خصوصاً عبر ربع القرن المنصرم، الذي أدار فيه الإسلاميون البلاد، منذ انقلابهم على النظام الديمقراطي في 30 يونيو/ حزيران 1989. لم تعد أخطار ازدياد هجرة سكان الريف، التي أوصلت العاصمة الخرطوم مرحلة الشلل والفشل الإداري التام، مثار نزاع، حتى لدى الحاكمين أنفسهم. أوردت صحيفة "الجريدة" السودانية، الصادرة في 26 أغسطس/ آب الجاري، أن مجلس تشريع ولاية الخرطوم دق جرس الخطر، محذراً من ازدياد معدل الهجرة من الأرياف السودانية إلى العاصمة الخرطوم.
ذكر أعضاء المجلس التشريعي، خلال نقاشهم الظاهرة، أن سكان الخرطوم يمثلون، اليوم، ما نسبته 35% من سكان القطر الذي يقدّر سكانه، بعد انفصال الجنوب، بـ30 مليون نسمة، أي أن عشرة ملايين من مجموع الثلاثين مليوناً أصبحوا يعيشون في الخرطوم! وحذّر المجلس من أن هذه النسبة مرشحة للارتفاع، لتصل إلى 50%، أي أن نصف سكان القطر سيتركون الريف ويأتون إلى الخرطوم!
وذكرت "الجريدة" أن أعضاء المجلس أرجعوا أسباب هذه الهجرة إلى الحروب، وعدم تنمية الريف، وافتقاره أساسيات الحياة. وطالبوا، من ثمّ، بوقف هذه الهجرة المتزايدة التي أصبحت سبباً رئيساً في الانفلات الأمني الذي بلغ درجة النهب المسلح.
مع استشعارهم الخطر، لأول مرة، وهو خطرٌ ظل الأكاديميون ينبّهون إليه منذ فترة طويلة، لم يذهب أعضاء مجلس تشريع ولاية الخرطوم في وجهة الحلول العلمية، وإنما ذهبوا، كدأب "الإنقاذيين"، نحو وجهة الحلول الإدارية الأمنية، مطالبين السلطات بوقف الهجرة! فكيف، يا ترى، فات عليهم، وهم التشريعيون، أن حق التنقل والتملُّك والسكن في كل بقعة من بقاع السودان، حق يكفله دستور البلاد لكل مواطن ومواطنة؟ فوراء الهجرة إلى العاصمة أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية، ولن تقف الهجرة إلا بزوال أسبابها. الطريف أن أعضاء المجلس، مع مطالبتهم السلطات بإيقاف الهجرة، اقترحوا اقتطاع بعض الأراضي من الولايات المجاورة لولاية الخرطوم لاستيعاب المهاجرين الجدد!


يحتاج حل مشكلة الهجرة الضخمة إلى تغيير السياسات التي أفقرت الريف، وقضت على الزراعة التي هي حرفة معظم سكان الريف السوداني، وأفقرت المدن الإقليمية، حتى باع أرباب الصناعة والتجارة أملاكهم، ورحلوا إلى العاصمة. السياسات الحكومية الارتجالية غير المدروسة، المنحازة للمصالح الشخصية، والتي ظلت تطبّق بعنجهيةٍ لا مثيل لها، هي التي تسببت في انهيار اقتصاد الريف وكل أنواع الخدمات هناك، ما وضع سكان الريف وسكان المدن الإقليمية، أمام خيار واحد، هو الهجرة إلى العاصمة.
لم يطرح أعضاء المجلس التشريعي أي مقترحات للحزب الحاكم وحكومته بضرورة الرجوع إلى الديمقراطية، والاعتراف بتنوّع القطر، واشراك الجميع في القرار السياسي، وفي الحوار الوطني، الجاري الآن، الذي انحصر في الإسلاميين وبعض تابعيهم. لم يقترحوا الإيقاف الفوري للحروب الجارية التي جففت خزينة الدولة. كما لم يقترحوا حل الميليشيات الحكومية التي عاثت فساداً في الريف، وقضت، بسلوكها الفوضوي، على أمن الريف وإيقاع الحياة الطبيعية فيه. أيضاً، لم يشيروا إلى نهج الحكومة الخاطئ في الاعتماد على الحل الأمني، وإصرارها على حسم الصراع عسكرياً، من دون أي نجاحٍ يذكر، وهو أمر سبق أن جربته عقوداً في الجنوب، ثم وافقت في النهاية على انفصال الجنوب، في أسوأ كبيرةٍ من الكبائر ترتكبها حكومة سودانية.
أيضاً لم ينظر أعضاء المجلس التشريعي إلى تفشّي الفساد، وتحوّل بيع العقارات وشرائها في الخرطوم إلى صناعة لا مثيل لها في الجني السريع للثروات وسط المتنفّذين والدوائر المتصلة بهم من المشتغلين في السمسرة العقارية. أصبحت أسعار الأراضي في الخرطوم، عاصمة القطر المعزول، الرازح في الفقر والفوضى، والتي هي مدينة بلا بنية تحتية، وبلا تمدّن يذكر، تفوق أسعار مثيلاتها في الدول الصناعية الكبرى! فهل لهذا أي تفسير علمي واقعي؟
على  أيدي الإسلاميين السودانيين، فارقت الخرطوم صفتها عاصمة، بل صفتها مجرد مدينة. اختفى حراكها الثقافي المتنوّع، وتدهور فيها السلوك المديني، فاستحال نزقاً وجلافةً يلقيانك أينما اتجهت. أضحت الخرطوم قريةً، ولكن من صنف جديد. فهي قريةٌ بالغة الضخامة بلا أي ميزة من ميزات القرى المتمثلة في بساطة الحياة وسهولتها، ودفء العلاقات الاجتماعية، والخلوّ من الضغوط والتعقيدات والاختناقات المرورية، إضافة إلى نقاء الهواء، وإيقاع الحياة المريح، السلس. العيش في خرطوم الاسلاميين، بعد ربع قرن من حكمهم، أضحى مثل العيش في ثنايا كابوس، فقد أخذت في الانفلات إلى حدٍّ لا تدري فيه أين ومتى ستدهمك الكارثة.


في ربع القرن المنصرم، تمدّدت الخرطوم شمالاً وجنوباً حول ضفتي النيل الأزرق والنيل الأبيض، وحول مجرى نهر النيل الرئيس بعد ملتقى النيلين، إلى ما يزيد، في مجمله، عن الـ60 كيلومتراً. كما تمددت من الشرق إلى الغرب بما يصل 30 كيلومتراً، بمساحة كلية تصل إلى نحو 1800 كيلومتر مربع. أحدث هذا التمدّد الأفقي الكبير ضغطاً متزايداً على إمدادات الكهرباء وإمدادات المياه الضعيفة أصلاً. كما أحدث ضغطاً متزايداً على إمدادات المواد الغذائية، خصوصاً الخبز، وعلى المحروقات والمواصلات، وعلى الصرف الصحي، وعلى خدمات جمع النفايات، وتصريف مياه الأمطار. فبسبب الأعمال الهندسية السيئة، تنشأ في فصل الخريف عشرات آلاف برك المياه الراكدة، التي يتوالد فيها البعوض الناقل لمرض الملاريا، والذباب الناقل للأمراض المعوية. ونتيجة قلّة الطرق المسفلتة، ورداءة نوعية ما هو قائم منها، أضحت الخرطوم تعاني من تلوث غباري حاد. أما الخدمات التعليمية والصحية، فقد رفعت الحكومة المركزية، وولاية الخرطوم، أيديهما عنها، رفعاً شبه كامل. 
ما تفعله الحكومة السودانية وولاية الخرطوم، الآن، تجاه الأوضاع الكارثية المتفاقمة في العاصمة، وغير العاصمة، ليس سوى لهاثٍ مستمر لمواجهة مشكلاتٍ لا تفتأ تتضخم بمعدلات هي أكبر بكثير جداً من الموارد المتاحة. فالشقة بين المشكلات والموارد المتاحة تتّسع باستمرار. ولذلك، انحصرت جهود المسؤولين في حملاتٍ ساذجةٍ للعلاقات العامة، عبر وسائل الإعلام، تحوّلت بها حكومة السودان، وحكومة ولاية الخرطوم، إلى مجرد ظاهرتين إعلاميتين، لا أكثر.
تسير حكومة الإسلاميين في السودان على خطى بشار الأسد، حذو النعل بالنعل. هذه الحكومة لم تعترف إطلاقاً بأن البلاد تمر بكارثة، ولا يبدو أن لديها أي استعداد للاعتراف. مع هذا الانهيار الذي سحب الريف من مراقده، ودفع به قسراً إلى جوف المدينة، التي ابتلعته، وأخذت تعاني بسببه سكرات الموت، تجد انصرافاً إلى إجراء حوار وطني شكلي، ليس فيه معارض يعتدّ به، أو حامل سلاح. كما تجد انصرافاً إلى إجراء انتخاباتٍ في أبريل/ نيسان 2015، تعرف هي، قبل غيرها، أنها لن تمنحها شرعية أفقدها إياها العجز والفشل المزمن وضعف المصداقية. انتخابات أشبه ما تكون بانتخابات بشار الأسد، التي جرت فهلّل لها، والبلاد تندك دكاً، وتُنتقص من أطرافها، بل وتُدمج في بلاد أخرى!
يعيش السودان وضعاً كارثياً حاداً، ويحتاج إلى لمّ شمل أهله، جميعهم. فهل تعي حكومة الإسلاميين دروس التاريخ، ودروس الربيع العربي القريبة، فتجنّب البلاد والعباد الكوارث وانفراط العقد، وانتثار حباته المتبقية؟

 

دلالات