الحوار الأممي في ظل اتجاهات وتجاذبات القضية الليبية

الحوار الأممي في ظل اتجاهات وتجاذبات القضية الليبية

16 فبراير 2015
تنقسم الآراء السياسية في ليبيا إلى اتجاهات
+ الخط -
لا أعتقد أنّه يمكن للعالم أن يغضّ نظره عن حدود بحريّة تقارب ألفي كيلومتر تقابل الجنوب الأوروبي، وأخرى بريّة تمتد أكثر من أربعة آلاف كيلومتر، تحاذي ست دول تفصل بالحدود مع بعضها بين أوروبا ودول جنوب الصحراء التي تمثل المصدر الأكبر للهجرة غير القانونية نحو أوروبا، والتي تعتبر ليبيا من مناطق انطلاق موجات تلك الهجرة، ليس من أفريقيا جنوب الصحراء فقط بل من دول آسيوية عربية وغير عربية.
ولا ننسى النفط الليبي الذي يشكل أيضاً أهمية لعدد من دول أوروبا، فضلاً عن مخاوف إقليمية وأوروبية من احتمال تحول تلك الحدود الواسعة إلى ممرات آمنة لمقاتلين عقائديين لا يؤمنون بالحدود من الأساس، كما يرون في الغرب مصدراً لما تعانيه المنطقة من اضطرابات سياسية واجتماعية وانهيار اقتصادي بسبب أنظمة حكم "شمولية".

داخلياً، تنقسم الآراء السياسية في ليبيا إلى اتجاهات، بعضها يرى أن وجود ليبيا الحالي هو جزء من "مؤامرة صليبية صهيونية" أدت إلى تقسيم العالم الإسلامي بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية التي كانت تحكم رقعة واسعة من جغرافية العالم الإسلامي. وتمثل هذا الاتجاه تيارات إسلامية بعضها تعتبر "الجهاد" هو الطريق الوحيد للتخلص من آثار تلك "المؤامرة".
والمعلوم أن تنظيم "القاعدة" لم يعد بكل واجهاته الممثل للاتجاه الإسلامي بل بات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أكثر تعبيراً عن هذا الاتجاه وكلا التنظيمين يوجد لهما تمثيل في ليبيا، وربما يتمدد وجود تنظيم "داعش" بشكل تمكن ملاحظته في شرقي وغربي ليبيا.
ويبقى لحركة "الإخوان المسلمين" اهتمام بمفهوم الأمة، وبالتالي لهم ملاحظات بخصوص الحدود، بل والنزاعات التي تسببت فيها العلاقات المتوترة بين الأنظمة العربية والإسلامية في حقبة ما قبل الربيع العربي، وإن كان "الإخوان" قد أعاد بعضهم تفسير فكرة الأمة بعيداً عن الشكل التاريخي للخلافة التي كانت تمثل نظرياً دولة ذات جغرافية واحدة مترامية الأطراف.
ويؤكد الواقع التاريخي أن "الخلافة النظرية"، لم يكن لها وجود بعد العصر العباسي الثاني، إذ تعددت الدول في جغرافية المسلمين، وإن لم يتسم أي منهم بالخلافة احتراماً "للنظرية الفقهية التي تتحدث عن خليفة واحد للمسلمين، وهذا بالنسبة إلى "الاجتهادات السنية".

في المقابل، هناك اتجاهات محلية تنظر إلى ليبيا من خلال حدودها الحالية، وربما يمثل نظرياً بعض "العلمانيين والليبراليين" هذا الاتجاه، على الأقل من خلال انتقادهم للاتجاهات الإسلامية التي تتحدث عن علاقة أممية مع جغرافية الشعب الإسلامية التاريخية، وعلى الرغم من ذلك لم تتضح الرؤية "القومية الليبية" لدى هذا الاتجاه، ولا توجد دراسات يمكن أن تعتمد في تحديد نسبة هذا الاتجاه بين النخبة ومعدل تأييده الشعبي.

غير أن الاتجاه "الفيدرالي" المتركز في المنطقة الشرقية يظهر أكثر وضوحاً بين الاتجاهات المحلية التي ترفض الاعتراف بأي بعد أممي يطرحه الإسلاميون، وإن استطاعوا في حالة واقعية من التحالف مع الإسلاميين السلفيين المداخلة مع ذوي المرجعية السعودية ضد الإسلاميين الجهاديين وحركة "الإخوان المسلمين".

وتتعدد التفسيرات بين الفيدراليين، فبعضهم وصل به حد المناداة بالانفصال عن بقية دولة ليبيا، وآخرون ينادون بنظام "فيدرالي" يمنح صلاحيات واسعة للأقاليم أو الولايات خاصة ما يتعلق بالتصرف في الموارد الطبيعية.

وهناك اتجاه المنظومة السياسية السابقة التي لا تزال تتحدث عن العمق العربي لليبيا، فكثير من شخصيات منظومة العقيد الراحل معمر القذافي، ذات التأثير المحلي والعلاقات الإقليمية تُصرح بالبعد العربي لليبيا في مقابل رفض محاولات الاتجاهات الإسلامية ربط ليبيا بجغرافيتها الإسلامية.

ويترتب على تعدد الاتجاهات المحلية السابقة، تجاذبات سياسية وأمنية تشهدها ليبيا، وتتجه إلى قضايا لم يستطع الليبيون حتى الآن حسم الموقف منها، بل ربما يمثل الخلاف بشأنها الدافع إلى الحرب الأهلية المتسعة التي تشهدها البلاد منذ سقوط نظام القذافي الذي ربما كان سقوطه نتاجاً لتراكم التجاذبات بين اتجاه نظامه ومختلف الاتجاهات.

إذ لم يعترف القذافي نفسه بحقها في الوجود في الداخل، فيشكل معها تنوعاً كان من الممكن أن يجنب البلاد الاقتتال، بحثاً عن حق التعبير عن الآراء السياسية التي كانت ربما السبب الأكثر رجحاناً في مشاركة كل الاتجاهات في "الثورة" على القذافي.

ويتسع اليوم الخلاف في الموقف من مسلّحي ما بعد ثورة 17 من فبراير/شباط 2011، وفي الوقت نفسه هناك جدل بشأن المؤسسة الأمنية والعسكرية التي مثلت أدوات القمع للاتجاهات السياسية التي ناوأت القذافي طيلة فترة حكمه حتى لحظة الثورة عليه وما بعدها، ولكل اتجاه رؤية من مسألة السلاح والمؤسسة الأمنية والعسكرية.

وتختلف الاتجاهات السياسية في ليبيا على شكل الدولة الإداري ونظامها السياسي وهيكل السلطة فيها، إضافة إلى موقفها المتناقض أحياناً بشأن مفهوم الشريعة وتطبيقها. كما لم تتفق جميعها على النظام المالي والاقتصادي، وبالتالي الموقف من الموارد الطبيعية وأهمها النفط والغاز.

يضاف إلى كل التجاذبات الداخلية ما ذكر في مستهل المقال من احتمال أن تشكل ليبيا تهديداً أمنياً على أميركا وأوروبا، واقتصادياً على الأخيرة، مع اختلاف درجة التأثير بين الأمني والاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي. ففي حين تعتبر إيطاليا أكثر الدول الأوروبية عناية بالطاقة الليبية، فإن فرنسا والولايات المتحدة مهتمتان بالأوضاع الأمنية، خاصة الولايات المتحدة التي لا تريد أن تتكرر تجربة جهادية أممية في ليبيا، كالتي كانت في الجزائر في العقد الأخير، من القرن المنصرم.

ولا أدري إن كان من الممكن أن نختلف بخصوص مخاوف دول إقليمية كبرى كمصر والجزائر من سقوط ليبيا في أتون الفوضى، وبالتالي تصبح جغرافية جاذبة للجهاديين عابري الحدود الذين يمكن أن يصلوا إلى سيناء، ومن ثم غزة، أي قد تهدد وجود إسرائيل نفسها، كما يمكن أن تحتضن الآلاف من الجهاديين الأمميين لتمثل حالة أفغانية ثانية، قد تشكل، في حال عجزت الاتجاهات السياسية المحلية والإقليمية والعالم عن إيجاد توافقات ليبية حقيقية، قاعدة لتجمع الجهاديين الأمميين وإعادة انتشارهم مجدداً في أرجاء المعمورة.

لعلّ هذا ينتهي بنا إلى إبداء قلق عميق من اتجاه الحوار الذي ترعاه البعثة الأممية برئاسة برناردينو ليون، بل وعشرات المبادرات المحلية والخارجية، إذ اختارت كل تلك المبادرات منهجية نمطية في تعريف الإشكال الخاص بالقضية الليبية. إذ أصرت كل تلك المبادرات على اعتبار أن النزاع المسلح في أساسه بين جسمين تشريعيين؛ هما المؤتمر الوطني العام في طرابلس ومجلس النواب في طبرق، وما انبثق عنهما من انقسام حكومي امتد ليشمل المؤسسة العسكرية والمالية.

وبالتالي، تمت إعادة تركيب المشهد في ليبيا أممياً وربما محلياً على أساس أهمية بدء إجراءات الحوار بتشكيل حكومة وفاق وطني على أساس أنّها تنهي الانقسام الواقع في ليبيا، هذا ظاهراً يبدو صحيحاً غير أن قضايا الانقسام لن تحل بمجرد تشكيل حكومة وفاق وطني، ثم يتجه الحوار الأممي مباشرة إلى حل الانقسام التشريعي.

وهنا يتم اقتراح أفكار كثيرة بتشكيل مركب تشريعي هجين من الجسمين الحاليين أو إيجاد مجلس رئاسي وغيرها من المقترحات التي تبقي الأزمة في مستواها الشكلي.

تتسارع أفكار الحوار لتخطو بنا نحو إقرار وثيقة دستورية تتبعها انتخابات عامة تعيد وفق الرؤية الأممية وكثير من المبادرات المحلية ليبيا إلى سبيل التعددية والتبادل السلمي على السلطة.

لكن قد يكون مقتل الحوار الأممي والمبادرات المحلية في تسطيح الأزمة في الإطارات الشكلية لهياكل السلطة من دون النزوع إلى التأمل عميقاً في القضايا،التي تختلف بشأنها الاتجاهات السياسية المحلية، مما يوجب سياسياً واجتماعياً أن يعفى الليبيون من الذهاب قريباً إلى أي استحقاق سياسي تنافسي، ينتج لنا مشهداً سياسياً مملوءاً بالقضايا المختلف بشأنها، كالتي ورد ذكرها من مسائل الاختلاف.

وبالنظر إلى الوقائع التاريخية فإننا قد لا نجد أي مخرجات لحكومات الوفاق الوطني، خصوصاً في ظل عدم امتلاكها أي قوة مالية أو عسكرية تمكنها من فرض القانون وإقرار النظام بين المتنازعين للحد الذي قد يفصلها عن واقعها تماماً. بل قد تعجز عن فرض القانون حتى في حال امتلاكها القوة، بسبب شدة الاختلاف بين الاتجاهات السياسية المحلية، كما هو الحال في العراق، منذ سقوط نظام صدام حسين.

على الرغم من صعوبة توقع الاستقرار في ليبيا كنتيجة للحوار الأممي والمبادرات المحلية، وكذلك صعوبة تصور يتمكن فيه أي طرف مشارك في الحرب الأهلية الجارية حالياً من حسم الأمر ميدانياً وسياسياً، مما يجعل الخيار الأكثر رجحاناً في حال تخلى العالم عن مهمته غير النمطية، تجاه أعضاء المجتمع الدولي الداعمين للقتال في ليبيا، هو استمرار الاقتتال لفترة قد تطول أكثر مما يتوقعه الليبيون بل والكثير من اللاعبين الخارجيين.

لكن نظرياً، لا بد أن يعاد بناء الحوار على أساس زمني مديد يبدأ بالاعتراف بعمق الخلاف بشأن القضايا الأساسية في السياسة والاجتماع والاقتصاد بين الاتجاهات المحلية في ليبيا، ثم ضرورة أن يستمر الحوار الليبي برعاية أممية مباشرة، تستخدم صرامة القوى الكبرى في منع دعم الاقتتال، والتأكيد لليبيين أن واجبهم الوحيد هو التفاوض بشأن كل قضايا الاختلاف بينهم ولن تمضي ليبيا إلى أي استحقاق سياسي انتخابي تنافسي قبل الانتهاء بالحوار والتفاوض من كل قضايا النزاع والخلاف مهما صغرت.

إن التزام العالم والقوى الكبرى فيه، خاصة الولايات المتحدة الأميركية، بإلزام الليبيين على التوافق بشأن خلافاتهم، مع التخفيف نسبياً من الحديث عن "الإرهاب" بالشكل الحالي الذي يمنح بعض أطراف النزاع والحرب في ليبيا مبرراً لاستمرار قتاله أو رفض الحوار وكل طرف مدعوم من أنظمة إقليمية، وبعض القوى الكبرى بحجة محاربة "الإرهاب" أو رفض الهيمنة الغربية، وهي الحجج ذاتها التي استخدمتها أنظمة ما قبل الثورات في اضطهاد شعوبها واستمرار استبدادها وفسادها.

دلالات

المساهمون