الحفاظ على الزخم الإيجابي في الاقتصاد العالمي

الحفاظ على الزخم الإيجابي في الاقتصاد العالمي

15 مارس 2017
كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي (فرانس برس)
+ الخط -
إن بادن – بادن، تلك المدينة الألمانية ذات المنتجعات الصحية التي بُنيت على الينابيع الساخنة العريقة، هي المكان المناسب لمناقشة صحة الاقتصاد العالمي أثناء اجتماع وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في مجموعة العشرين هذا الأسبوع.

ومن المرجح أن يتبادل صناع السياسات مشاعر التفاؤل المتزايد لأن زيادة قوة النشاط في الفترة الأخيرة تدل على أن الاقتصاد العالمي قد يخرج أخيرا من حالة النقاهة التي امتدت لسنوات متعددة.

وكان للوصفات الاقتصادية دور مهم في تحقيق التعافي، وستواصل القيام بهذا الدور لفترة من الوقت. ولا يزال الدعم الذي تقدمه السياسات الاقتصادية الكلية ضرورياً للحفاظ على زخم النمو الإيجابي. وسوف يتعين أن يتخذ المشاركون في الاجتماع إجراءات، فردية وجماعية، لجعل النمو أكثر احتواء وصلابة.

فهل وصلنا إلى نقطة تحول؟

الجواب المختصر هو نعم، على الأقل في الوقت الراهن. فنتائج النمو في النصف الثاني من العام الماضي كان راسخة بوجه عام. ومؤشرات الصناعة التحويلية والثقة آخذة في الارتفاع، وهناك بشائر على ما يصاحبها من ارتفاع في أحجام التجارة العالمية.

لهذا السبب أشارت توقعات صندوق النقد الدولي في يناير 2017 لتحسن النمو العالمي هذا العام والعام التالي ليصل إلى 3.4% و3.6% مقابل 3.1% في 2016.

يرجع أحد أسباب تحسن الآفاق إلى توقعات انتعاش النشاط في الاقتصادات المتقدمة، تدعمها التوقعات بزيادة توسع سياسة المالية العامة في الولايات المتحدة، ونحن نشعر بالتفاؤل بصفة خاصة إزاء قوة النشاط الاقتصادي التي تجاوزت التوقعات في منطقة اليورو والمملكة المتحدة واليابان.

ولا تزال الاقتصادات الصاعدة والنامية، وفي طليعتها الصين والهند، تسهم بما يزيد على ثلاثة أرباع مجموع نمو إجمالي الناتج المحلي العالمي في 2017. وعلاوة على ذلك، يُتوقع عودة الأوضاع في البرازيل وروسيا إلى طبيعتها بعد أن شهد كل منهما فترة ركود عميق.

ومن ثم، فإن الجواب هو نعم، إن الاقتصاد العالمي يتحرك نحو وضع أفضل. ولكننا نخطئ إذا افترضنا أنه سيصبح في أتم صحة بشكل تلقائي، وفي حقيقة الأمر، قلما كانت خيارات السياسات أهم مما هي عليه اليوم لما سيأتي بعدها، خاصة في ظل استمرار وجود مخاطر كبيرة على الآفاق.

الحفاظ على الزخم

لا يزال الطلب ضعيفا في عدد من الاقتصادات المتقدمة، على سبيل المثال، بينما التضخم لم يعد إلى مستواه المستهدف بشكل دائم، الأمر الذي يدعو إلى استمرار الدعم من السياسة النقدية وزيادة التركيز على سياسة المالية العامة في البلدان التي تمتلك حيزا في موازناتها. وينبغي أن تقترن هذه الخطوات بإصلاحات هيكلية لزيادة الإنتاجية وتعزيز النمو على المدى الطويل.

ونقص الطلب لا يمثل مشكلة بهذا الحجم في الولايات المتحدة، حيث ينتفع النمو بقدر أكبر من جهود زيادة العرض، مثل الاستثمار بغرض الإصلاح الشامل للبنية التحتية، وإصلاح ضريبة الشركات المعزز للكفاءة، وتحسن التعليم.

ومن المؤكد أن ارتفاع النمو في الولايات المتحدة يصب في صالح الاقتصاد العالمي، ولكن تغير مزيج السياسات الأميركية قد تكون له تبعات أو تداعيات.

على سبيل المثال، حسب طبيعة مزيج السياسات الأميركية، من شأن زيادة قوة الدولار وارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة أن يفضي إلى ضيق الأوضاع المالية العالمية بصورة حادة تفوق التوقعات. ومن المحتمل أن تؤدي هذه التطورات إلى وضع ضغوط على بعض الاقتصادات الصاعدة والبلدان منخفضة الدخل.

كذلك فإن الحفاظ على زخم النمو الحالي سيرتكز على نجاح التحول نحو النمو بوتيرة أبطأ وعلى نحو أكثر توازنا في الصين، وعلى اتخاذ مزيد من الإجراءات على صعيد السياسات من جانب البلدان المصدرة للسلع الأولية بينما تواصل مسيرتها للتكيف مع انخفاض أسعار هذه السلع.

والأهم من ذلك كله، ينبغي أن نسعى بشكل جماعي لكي نتجنب الضرر الذاتي، وهو ما يتطلب منا القيادة بدون سياسات تسفر عن آثار خطيرة تضعف التجارة والهجرة وتدفقات رؤوس الأموال ونقل التكنولوجيا عبر الحدود. فمن شأن اتخاذ مثل هذه التدابير أن يضر بالإنتاجية والدخل ومستويات معيشة جميع المواطنين.

التكامل الاقتصادي العالمي

لقد سمحت التجارة والابتكارات التكنولوجية للبلدان المختلفة بزيادة حجم كعكة الاقتصاد وتحسين مستويات المعيشة، بينما انتشلت مئات الملايين من السكان من الفقر. ولكن المجال لا يزال متاحا لفعل المزيد من أجل تخفيف الآثار الجانبية غير المرغوب فيها في بعض البقاع بما فيها زيادة عدم المساواة في الدخل، وفقدان الوظائف في القطاعات الآخذة في الانكماش، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي امتدت لفترات مطولة على مستوى المناطق الأضعف من الناحية الهيكلية.

وكيف يتم ذلك؟

ليست تلك بالمهمة اليسيرة، لكنها يمكن أن تبدأ بتعزيز النمو، وتقاسم منافعه على نطاق أوسع.

والخطوة الحيوية الأولى هي أخذ مسألة النمو الاحتوائي على محمل الجد. فنحن لم نفهم تماما بعد الشبكة المعقدة من التحديات الاقتصادية التي تواجه مختلف الثقافات والمناطق والمجموعات الديمغرافية. ونحن نعلم تماماً، برغم هذا، أن هناك احتمالات أكبر بكثير بأن تعود منافع الابتكار والانفتاح الاقتصادي على العمالة الأعلى مهارة.

الأمر الذي يدعونا إلى بذل جهود أكبر لتزويد العمالة الأقل مهارة بالأدوات التي تحتاج إليها للبحث عن وظائف وإيجاد فرص عمل تدر دخلا أعلى، مثل البرامج التعليمية الموجهة، والتدريب لاكتساب المهارات، ومنح الحوافر لتوظيف العمالة.

من شأن هذه السياسات الفعالة في سوق العمل أن تساعد في تيسير تحول العمالة إلى شغل وظائف جديدة. ويختلف حجم تمويلها اختلافاً كبيراً بين البلدان. على سبيل المثال، تنفق الدنمارك 1.9% من إجمالي الناتج المحلي على هذه السياسات مقابل 0.1% في الولايات المتحدة.

وبطبيعة الحال، لا يكفي إنفاق مزيد من المال، فيجب إنفاقه على نحو أكثر كفاءة. وقد ثبتت فعالية تكلفة بعض المبادرات مثل المساعدة المصممة جيداً للبحث عن وظائف وتحقيق الاتساق بين المهارات واحتياجات سوق العمل.

وبصورة أعم، يتعين أن تسعى جميع البلدان بفعالية لتشجيع التَعَلُّم مدى الحياة من أجل إعداد مواطنيها لمواكبة التغيرات التكنولوجية.

على سبيل المثال، تقدم سنغافورة منحاً غير مشروطة لجميع البالغين لكي يتدربوا طوال حياتهم العملية، ومن الأولويات الأخرى لتحقيق النمو الاحتوائي تحديث سياسات الدخل والنظم الضريبية. 

يمكن المساعدة على تحقيق ذلك في بعض البلدان من خلال منح حوافز ضريبية على رأس العمل ورفع الحد الأدنى للأجور. ومن ثم، يمكن تحقيقه كذلك من خلال تغيير نظم الضرائب والمزايا، بما في ذلك زيادة تصاعدية ضريبة الدخل.

ويتضح من بحوث صندوق النقد الدولي أن تجنب عدم المساواة المفرط يساعد على النمو ولا يعرقله. ونحن نعلم كذلك أنه يمكن تقليص المفاضلات بين السياسات إلى أدنى حد: على سبيل المثال، سوف ينتفع معظم البلدان من الإصلاحات التي تجعل نظمها الضريبية أكثر عدالة وأكثر كفاءة.

باختصار، نحن لدينا القدرة، وعلينا المسؤولية، لزيادة حجم كعكة الاقتصاد، مما يسهل اقتسامها على نحو أكثر عدالة، ومن شأن التعاون الدولي الفعال أن يحقق أقصى حد من المنافع من السياسات الوطنية إذا نحن:

- كثفنا الجهود لمعالجة الاختلالات الخارجية على مستوى العالم واستكمال الإصلاحات الرامية إلى تعزيز النظم المالية.

- وعملنا على حماية التجارة وتعزيز دورها كمحرك لتحقيق النمو الذي يقتسم ثماره الجميع.

- وعملنا معاً لتسوية بعض القضايا الأكثر إلحاحاً في وقتنا هذا، من قضايا الأمن العالمي والصحة حتى مواجهة الكوارث الطبيعية وتغير المناخ.

إن صناع السياسات في مجموعة العشرين يمكن أن يُحْدِثوا فرقا كبيرا في جميع هذه القضايا. وبعد أن ظل الاقتصاد العالمي عالقا لسنوات في حالة من التعافي الضعيف، أصبح الآن في حاجة إلى التحرك قُدُماً وبلورة وتوليد قدر أكبر من الازدهار للجميع. أي مكان أفضل من مدينة بادن-بادن ليُعيد القادة التزامهم بأن يصبح الاقتصاد العالمي في تمام الصحة؟

---------------------
نقلاً عن موقع صندوق النقد الدولي
الرابط: http://www.imf.org/external/arabic/index.htm