الحسيمة.. حكاية ثمانية أشهر من الحراك

الحسيمة.. حكاية ثمانية أشهر من الحراك

13 يوليو 2017
ناصر الزفزافي قائد حراك الريف (فرانس برس)
+ الخط -

طيلة ثمانية أشهر من الاحتجاجات المتواصلة لم تستطع الدولة ولا الأحزاب السياسية ولا منظمات المجتمع المدني أن تؤسس لقنوات حوار مع قيادات الحراك الذي اشتعلت شرارته منذ مقتل السماك محسن فكري طحنًا في شاحنة نفايات.

كيف فشلت المبادرات ودعوات الحوار وأين اختفت مؤسسات الوساطة ولماذا عجز الإعلام العمومي عن فتح نقاش في موضوع الاحتجاجات الاجتماعية؟ وما هي مآلات الحراك وكيف يمكن تطويق الأزمة المشتعلة وهل تستقيم "المقاربة التنموية" المصحوبة بـ"المقاربة الأمنية"، وكيف تجاوز التأطير الجماهيري للشباب كل الأحزاب المغربية؟

في البدايات الأولى من الاستقلال، رفض نفر من المقاتلين الذين يدينون بالولاء لجيش التحرير النزول من الجبال حتى يتحرر القطر المغاربي بكامله. كان من بين هؤلاء عدد غير قليل من المؤمنين بالعقيدة الخطابية ومن الذين قاتلوا معه في الحرب التحريرية في العشرينيات من القرن الماضي. غضب السلطان المغربي ومعه ولي العهد الذي أحكم القبضة على ملف جيش التحرير.

في تلك اللحظة، بدا أن "العداء القديم" بين الريف والدولة المركزية مرشح لأن يصبح أكثر تجذرا، وفي حمأة صراعات طاحنة بين الباحثين عن تقاسم السلطة في مغرب ما بعد الاستقلال، كانت هناك طائفة ترابط بالجبال وتطالب بالحق في الكرامة والشغل والاندماج في الإدارة العمومية، وخاصة أنها كانت تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي، واللغة الإسبانية، لم تكن غنيمة حرب كما هو الحال مع الفرنسية ولذلك اشتعلت جذوة الصراع من جديد لتصبح أكثر ضراوة.

في سنتي 1958-1959 قاد ولي العهد الحسن الثاني بمعية أوفقير جيشا نظاميا لتأديب الريفيين الذين قدموا وثيقة مطلبية تضم مطالب اجتماعية بزعامة محمد سلام أمزيان. دك الجيش القرى الريفية وبقيت صورة الجنود بالخوذ العسكرية منقوشة في اللاوعي الجمعي، ليطلق على تلك السنوات بـ"عام إقبارن" للدلالة على الواقيات المدورة التي توضع على رؤوس الجنود.

في سنة 1984 عاد الحسن الثاني ليذكر الريفيين في خطابه الشهير بأحداث بداية الاستقلال، ومورس العنف ضد المحتجين واعتقل العشرات حينها ليزداد الجرح اتساعا مع اجتهاد البصري في نحت صورة "الانفصاليين" و"المهربين" لدى المغاربة.

من يريد أن يقرأ ما يحدث اليوم يجب أن يقرأ هذا التراكم التاريخي، ومن يريد أن يفهم لماذا فشلت الدولة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في بناء جسور حوار بين الدولة والمحتجين، عليه أن يفهم أولا البنية الذهنية للمحتجين. غير أن الذي حدث أن الجميع أراد أن يستقرئ أحداث الحسيمة الحالية ذات النفس الطويل معزولة عن الشحن النفسي الذي انتقل بين الأجيال بالوراثة، ومعزولة عن سياق تاريخي وجغرافي ساهم بشكل كبير في أن تصبح الحسيمة مدينة ميالة إلى العناد ضد المركز.


"بلوكاج" حكومي وحراك يتمدد
من سوء الصدف أن مقتل محسن فكري تزامن مع انشغال الرأي العام والسياسيين بالانتخابات التشريعية التي جرت يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ورغم أن عشرات الآلاف من المتظاهرين كانوا يخرجون أسبوعيا إلى الشارع، إلا أن حدث الانتخابات كان الهم الأساس للأحزاب السياسية وللدولة نفسها التي كانت حريصة على التوازنات في مرحلة ما بعد بنكيران.

خلال سبعة أشهر، كانت الدولة تراقب، وكانت تعرف جيدا أن المزاج العام ما يزال متأثرا بصورة محسن فكري يطحن في شاحنة النفايات، ولذلك لم تستعمل القوة إلا نادرا، وبالمقابل فإن الأحزاب السياسية التي من المفترض أنها ستؤطر الجماهير ظلت بعيدا عما يجري متوجسة من رد فعل الدولة أولا التي كانت تنظر إلى المنطقة بكونها تكتسي خصوصية وخائفة من رد فعل الجماهير التي طالبت برحيلها بل ووصفتها بالدكاكين.

الزخم الجماهيري الذي انتشر كبقعة الزيت ليشمل مناطق جديدة من الريف، تجاوز قدرة الأحزاب على التحكم في الدينامية الجماهيرية، وتجاوز هيئات المجتمع المدني المتهمة بالقرب من السلطة. وبالرغم من أن أحزابا حاولت في العلن وفي السر كذلك أن تبادر من أجل احتواء الاحتجاج الآخذ في الاتساع، فإنها اصطدمت بنشطاء رافضين لتدخل الأحزاب.

على سبيل المثال، قدم حزب الأصالة والمعاصرة مخططا للتنمية الجهوية، لكن لا أحد من المحتجين أخذه بعين الحسبان، ثم تدخلت ثلاثة أحزاب هي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والعدالة والتنمية، لكنها لم تفلح في الوصول إلى أي نتيجة وظلت صفة الدكاكين السياسية ملازمة لها في كل فصول الصراع.

وأمام انحسار بل اختفاء دور الأحزاب، ظهر شاب طويل القامة يمتلك هاتفا وشبكة إنترنت وغرفة بسيطة في الحسيمة وراءه مكتبة وصورة لمحمد عبد الكريم الخطابي يوجه نداءات ورسائل ويدعو للتظاهرات ويحلل وينتقد ويصعّد ويتوعّد ويتجول في الأزقة والدروب والقرى وتجده في كل مكان، وسرعان ما تحول ناصر الزفزافي إلى رمز جماهيري، وأصبحت له قدرة كبيرة على التحكم في الاحتجاج إلى جانب قيادات الحراك، ولا سيما أنه أفرز قيادات نسائية مثل نوال بنعيسى وسيليا الزياني التي توجد رهن الاعتقال.

في هذه الفترة سمحت الدولة للإعلام الدولي أن يشتغل بحرية كبيرة، وهنا بدأت قيادات الحراك تأخذ شهرة وطنية ودولية وتحولت "لايفات" الزفزافي إلى موعد يومي تجمع الآلاف من الباحثين عن أخبار الحراك.


انهيار الثقة
في المقابل، وهنا ارتكبت الدولة أحد أخطائها في تدبير الحراك، لم تفتح نقاشا عموميا سواء في الفضاء العمومي أو في وسائل الإعلام السمعية البصرية، ما فسح المجال أمام جريان المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يعد الفرز قائما بين الخبر والإشاعة ولا بين التحليل والتحريض، والحال أن قيادات من الحراك التي توصف بأنها تمتلك خطابا متطرفا كان بالإمكان أن تشارك في نقاشات مفتوحة مع المسؤولين أو مع الخبراء لا أن تترك في قبضة "فيسبوك" و"تويتر" و"واتساب"، وهي بالمناسبة منصات ذات قدرة فائقة على التعبئة، وقد أثبت مسار الحراك أن ناصر الزفزافي كان يدعو للمسيرات ويصدر توجيهات للنشطاء عبر صفحته على الفيسبوك.

مسلسل انهيار الثقة مع الوسطاء "التقليديين" تكرس بشكل رسمي غداة تصريحات زعماء الأغلبية الحكومية، فبعد مرحلة من الصمت تجاه ما يجري في الريف وأمام مبادرات محتشمة من الحكومة، شكلت تصريحات الأحزاب الخمسة المشكلة للتحالف وقودا للاحتجاجات وزادت من قوتها، والأهم من كل ذلك أن كل الذين كانوا ضد خطاب ناصر الزفزافي وضد بعض غلاة الحراك دافعوا عن مطالب السكان واكتست المطالب طابعا وطنيا بعد أن كانت محلية.

في هذا الوقت بالتحديد، شرعت وسائل إعلام معروفة وأخرى غير معروفة في التحريض ضد الحراك وشيطنة قيادته والعزف على أسطوانة الأغلبية الحكومية نفسها ورمي المحتجين بالانفصال واختراع تهم غريبة جعلت البعض يشبّه الحملة بمسيرة ولد زروال التي سبقت الانتخابات التشريعية الماضية، إذ في الوقت الذي كان الغرض منها هو عزل الحراك وحصره في الزاوية انقلبت الأمور لتنشأ موجة تضامن غير مسبوقة من فعاليات كانت دائما تتوجس من خط الحراك...

بالموازاة مع هذا الانهيار الذي مس الوسائل التقليدية، الذي كان من الممكن تداركه خاصة في ما يرتبط بفتح نقاش عمومي حول مطالب الساكنة وتقييم السياسات العمومية، تحرك المجلس الوطني لحقوق الإنسان مسنودا باللجنة الجهوية لحقوق الإنسان التابعة له بغاية التأسيس لوساطة بين الدولة والمحتجين، بيد أن الأجواء المشحونة ورفض نشطاء الحراك التحاور مع الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، أجهضت جهوده قبل أن يعود المجلس ليعرض وساطته لكنها باءت بالفشل مرة أخرى، ليبدأ بعد ذلك جولة أخرى من النقاشات الماراتونية ستنتهي مباشرة بعد بداية حملة الاعتقالات.

درس انعدام الثقة السائد منذ سبعة أشهر، لم تستفد منه كثيرا بعض هيئات المجتمع المدني، فعوض أن تلتقط الإشارة بأن المحتجين يطالبون بضمانات من الدولة قبل البدء بأي حوار، حاولت الكثير من الشخصيات أن تدفع بمبادرات إلى الواجهة دون أن تنجح في تشخيص الداء الحقيقي أو أنها تحاول أن تخفي ذلك ببعض الجمل الفضفاضة.. الخلاصة أن الشباب الغاضب لم يعد يثق في أحد سوى الملك.


العصا والجزرة
في البداية لم تكن المقاربة الأمنية مطروحة إطلاقا، فدبر ملف الاحتجاجات عبر السماح للمحتجين بالتظاهر مع تجنب ظهور قوات الأمن، وحتى عندما خرجت الأغلبية الحكومية بتصريحات تتهم الريفيين بالانفصال وفي ذروة الحركة الاحتجاجية استبعدت المقاربة الأمنية خشية أن تنفلت الأمور من يد الأمن أمام دعم غير مسبوق من الطبقة المتوسطة وانضمام مناطق مجاورة إلى حركية الاحتجاج.

صمدت هذه المقاربة سبعة أشهر وهي المقاربة التي انبنت بالأساس على السماح للإعلام الدولي بتغطية الأحداث بكل حرية واستضافة معارضين لتوجهات الدولة. ربما كان الرهان على خفوت نفس الاحتجاج وعودة المتظاهرين إلى منازلهم، بيد أن عدد المناطق التي انتقلت إليها شرارة الاحتجاج اتسعت أكثر فأكثر، ومع بداية شهر رمضان حدث تغيّر بنيوي في طبيعة الاحتجاج، حيث ما كان في السابق احتجاجات أسبوعية وشهرية استحال إلى مظاهرات يومية وتحول حي سيد عابد إلى محج للمتظاهرين.

الانتقال إلى الخطة "ب" في تدبير الحراك بدأت تلوح مؤشراته شيئا فشيئا، بدأت بالضبط بمنع التجمهر في ساحة محمد السادس التي كانت القلب النابض للحراك طيلة سبعة أشهر. يقول مصطفى السحيمي، أستاذ العلوم السياسية، إن التعاطي مع الاحتجاجات بالمدينة ينبغي أن يكون مختلفا بالنظر إلى الخصوصية التي تتميز بها منطقة الريف. وتتجلى هذه الخصوصية، حسب كلام السحيمي، بكونها تجر وراءها تراكما تاريخيا من العلاقة المتوترة مع نظام الحسن الثاني الذي تعامل مع الريفيين بقسوة في لحظات مختلفة، وهذا الرصيد التاريخي تحول إلى شحنة نفسية جماعية معادية للمخزن، يضيف السحيمي.

لما انتهى البلوكاج الحكومي كانت الاحتجاجات قد توغلت في الشارع، ولذلك فإن الزيارات المتكررة لوزير الداخلية لم تفلح في نزع فتيل الاحتجاج، واضطر سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة، إلى أن يبعث وفدا وزاريا باعتمادات مالية للحد من انتشار رقعة الاحتجاج، لا سيما إثر انضمام مناطق زراعة الكيف إلى دائرة الغاضبين.

ولما جاء الوفد الحكومي ارتكب خطأ آخر عندما لم يستدع وجوها بارزة من الحراك للحوار، وخاصة أن الزفزافي عبّر غير مرة عن أن لا مانع لديه في أن تكون هناك لجنة للحوار دون حضوره. رأى المتظاهرون في زيارة الوفد الوزاري باستبعاد شباب الحراك بداية نهاية فرص الحوار، ورأت الحكومة عودة الاحتجاج بداية لمقاربة جديدة أفضت إلى اعتقال العشرات وتوتير الأجواء بالمدينة.

علي الإدريسي، الكاتب المغربي المتحدر من الحسيمة، يفسر الأزمة بكونها بنيوية، قائلا في سياق سرد خصوصيات المنطقة: "أعتقد أنه من المستحيل تعداد الخصوصيات والمقومات التي يتفرد بها أهل الريف أو يتميزون بها في حوار صحافي قصير، بل حتى لو كان مطولا. ولذلك كنا ننادي، ولا نزال نطالب، بإعداد دراسات إنثروبولوجية، وسيكو – اجتماعية، وثقافية شاملة وعميقة، تُدرّس للمسؤولين والموظفين المقبلين على ممارسة مسؤولياتهم ومهامهم في المنطقة، حتى ولو كانوا يتحدرون من المنطقة نفسها. نحن نتحدث هنا عن القواعد العلمية وليس عن الانتساب الجغرافي والمجالي. لكن ما تمكن الإشارة إليه هو أن أهل الريف يعتزون بكرامتهم وبدورهم الكبير في دحر الاستعمار، وإقناع الشعوب المستعمرة في العالم بأن الاستعمار نمر من كرتون. ويأتي مسؤولون وعناصر شرطة وغيرهم لينعتوا الريفيين بأنهم (أولاد صبنيول). والريفيون هم من أذاق الاستعمار الإسباني الهزيمة التي غيرت إسبانيا في القرن العشرين؛ الهزيمة لا تقل فخارا عن هزيمة البرتغال في أواخر القرن السادس عشر، من قبل إخوانهم في الريف الغربي. وتأتي الأحزاب لتتهمهم بأنهم انفصاليون، ونتساءل: لماذا لم تقم النيابة العامة بالتحقيق مع قاعدة تلك الأحزاب؟ أم أنهم فوق القانون؟ هناك أسئلة وعلامات استفهام كثيرة حول موقف الدولة من تصريحات الأحزاب في موضوع الحراك؟ أم أن الدولة كانت بحاجة إلى من يستفز ساكنة الريف لغرض دفين، لم يظهر إلا في نوع التهم الثقيلة التي راحت النيابة العامة تتهم بها المعتقلين من الحراك؟ يبدو، في المحصلة، أن الجهات المعنية بحراك الريف، بدل أن تعمل على تحقيق المطالب المشروعة للساكنة، عملت عكس ذلك على تأجيج الوضع وتعقيده".

أما إبراهيم مومي، الحقوقي والباحث في العلوم السياسية، فيقدم مداخل جديدة لأزمة انهيار وساطات الأحزاب والوسائل التقليدية، "نحن أمام حالة جديدة من الاحتجاجات تختلف عن سابقاتها، لأسباب عديدة، منها: انبثاق هذا الحراك من الشارع العام بشكل عفوي بعد اندلاع شرارته على خلفية مقتل بائع السمك المرحوم محسن فكري؛ حيث لا يقف وراءه ناظم تقليدي (حزب سياسي ـ منظمة نقابية ـ حركة سياسية أو جمعوية) أو معبر يشتغل وفق القواعد المعروفة مؤسساتيا؛ وهو ما أكدته قيادات الحراك من خلال استبعادها المطلق لكل التعبيرات السياسية وجمعيات المجتمع المدني".

بينما يؤكد مصطفى السحيمي أنه "يجب التأكيد أن الذي يريد أن يقوم بدور الوساطة عليه أن يتحلى بصفات كثيرة، منها القبول أولا، ثم المصداقية ثم القدرة على الحوار وإقناع المحتجين. أما غير ذلك، فلا يمكن أن ينهض الحوار: هل تدري لماذا؟ لأن هناك إحساسا لدى ساكنة المنطقة أن الأحداث تجاوزت الأحزاب السياسية وتجاوزت الوسطاء التقليديين، وعلى هذا الأساس ليس غريبا إطلاقا أن تجد أصواتا تنادي بتدخل الملك مباشرة. هذه المقومات التي ذكرتها للأسف لم تتوفر في أي من الذين بادروا للحوار مع المحتجين. المبادرة، في تقديري، تقتضي أن تكون هناك ضمانات من الطرفين لا أن تكون عشوائية".

المساهمون