الحرية والتنمية .. أيّ علاقة؟

الحرية والتنمية .. أيّ علاقة؟

07 اغسطس 2015
+ الخط -
يكثر النقاش عن ارتباط الحرية بالتنمية، وعن أولوية كل منهما على الآخر، ودورهما في بناء المجتمعات المتقدمة، وإحداث الرخاء الاقتصادي. وتطرح هذه القضية التقاء الجانب السياسي ونظيره الاقتصادي في تشييد الأمم والارتقاء بها، حيث يؤثر كل جانب في الآخر، بهدف صياغة سياسات عامة هادفة إلى خدمة المواطن. وإذا كان الصراع النظري لم يحسم بعد، فكذلك الحال بالنسبة إلى التجارب العالمية التي تختلف بين من اعتمد على الحرية سبيلاً للتنمية الاقتصادية ومن يراها غاية منشودة لتنمية الأوطان. 
وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار الحريات السياسية هادياً للتنمية الاقتصادية، حيث أن الأخيرة تنبني على مرتكزات ديمقراطية عديدة، تتجلى في إرساء نظام للتعددية السياسية ومشاركة المواطنين في اتخاذ القرار، من خلال عقد اجتماعي مدني بين السلطة والشعب، توفير قضاء عادل وفصل بين السلطات، عبر ربط المسؤولية بالمحاسبة، وكذلك تدعيم المواطنة الحقة واللامركزية في تدبير الشأن العام، بما يشجع على المبادرات المحلية والتنمية المجالية، ويضمن توزيعاً عادلاً لثروات الوطنية في كل ربوع الوطن، ويساعد في تقريب الخدمات للمواطنين، من أمن وتعليم وصحة في المدن والأرياف.
وفي هذا الصدد، تحظى الحرية الاقتصادية بأهمية بالغة في الارتقاء بالبعد المجالي، من خلال تحفيز ريادة الأعمال، واتخاذ زمام المبادرة و التنافسية، وتساهم حرية الفكر والتعبير في اقتصاد المعرفة، فالانفتاح والإبداع والابتكار دوائر مركزية في المجتمع التكنولوجي، الأمر الذي يعزز الرأسمال المعرفي.
يظهر الترابط بين الديمقراطية والتنمية في اتباع الديمقراطية ممارسات مؤسساتية، موجهة لتحقيق أهداف التنمية من خلال: النقد العام للحكومة، المساءلة والمحاسبة، مراقبة السلطة التشريعية ومتابعتها، ودور المعارضة السياسية في التقييم، وتوجيه حركات تصحيحية وبدائل تطويرية. كما أن التنافس بين القوى السياسية يبرز تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فيما يتعلق بالفقر والبطالة والنمو، وذلك بالرجوع إلى آليات الانتخاب. إلى جانب ذلك، تتيح الحريات المجال الواسع لتسيير عمل المجتمع المدني، والذي بدوره يساهم في تحقيق التنمية. وعلى هذا النحو، تنتهج دول كثيرة التفاعل والترابط بين مثلث الدولة، السوق والمجتمع المدني الذي يشكل حاضنة شعبية لهواجس المواطن، ومهام المجتمع المدني تتمثل في وضع رقابة مجتمعية وقوة اقتراحية تغني الرصيد القيمي والأخلاقي في المجتمع.
وجدير بالذكر أن إسهامات الديمقراطية في التنمية تظهر في نماذج كالهند والبرازيل وتركيا التي نجحت في الانتقال من جمهورية الموز المحكومة من نظام عسكري ديكتاتوري متفرد في اتخاذ القرار إلى نموذج تنموي يصنف من بين 20 أقوى اقتصاد عالمي، ويحقق نسبة نمو الأعلى في أوروبا بما يفوق 9%.
وفي المقابل، نجد من يعتبر الحرية السياسية غاية للتنمية الاقتصادية، حيث تهدف التنمية إلى اقتناء القدرات الأساسية وتحسين جودة الحياة، ثم الاندماج في المجتمع، عبر تقوية الحريات، فالقضاء على التهميش، باعتبار هذا الأمر جانباً تنموياً، يؤدي إلى تعزيز الحريات والأمن الوقائي، وكذلك تمكين الثقافة الديمقراطية.

وبذلك، تصبح التنمية وظيفة رئيسية لعمل الدولة، تستلزم استثماراً كبيراً لجهود كل الفاعلين، من أجل تحقيق تحولات واسعة ومتواصلة، تقوي الإنتاجية وتعزز التوزيع المتوازن للثروة والحفاظ على البيئة، فالتنمية عملية لتحرير الإنسان وتمكينه، لكي يستخدم معارفه وقدراته، ويساهم في بناء السياسات العامة ومواجهة إكراهات الفقر، والبطالة والتفاوت الاجتماعي.
وفي سياق متصل، تعتبر التنمية مساراً متكاملاً لتوسيع الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، ليعيشوا الحياة التي يرغبون فيها. وتشتمل الحريات الحقيقية: الحريات السياسية، والتسهيلات الاقتصادية، والترتيبات الاجتماعية، وضمانات الشفافية والإفصاح، والأمن الوقائي. فضلاً عن تحول السياسة الاجتماعية إلى أداة تعتمدها الحكومات لتنظيم وإكمال مؤسسات السوق والهياكل الاجتماعية، وتشتمل السياسات الاجتماعية على الخدمات التي تقدمها الدولة، كالتعليم والصحة والتوظيف والأمن.
ويلاحظ في هذا الشأن، أنه عندما يتجاوز الشعب مستوى تنموياً معيناً، يصبح رافضاً للاستبداد والقمع، وعليه، تصبح القوانين الشفافة، المؤسسات المسؤولة والفضاء السياسي والنقابي الحر ضرورة مهمة، ونجد أن تجارب عالمية مختلفة تدخل في هذا الإطار كماليزيا وتشيلي، وكذلك كوريا الجنوبية التي تجاوزت أزماتها الاقتصادية من خلال الاتفاق الضمني للمستبد العادل، في حقبة الجنرال بارك شونغ-هي، من خلال عدم تدخل الشعب في القرارات السياسية وتوفير الحاكم الشروط الأساسية للمعيشة، لتتحول فيما بعد إلى دولة ديمقراطية مدنية تنبذ الاستبداد، وتحث الخطى نحو الازدهار الاقتصادي، عبر التحاقها بركب الدول المتقدمة.
وإجمالاً، الحرية والتنمية متلازمتان لا غنى عنهما، والتكامل بينهما واضح بما يعزز العدالة الاجتماعية، كحالة ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو كلتيهما، ويغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي، وتنعدم الفروق غير المقبولة اجتماعياً بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة. علاوة على ذلك، يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة، ويعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية. كما يتاح فيها لأعضاء المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم وإطلاق طاقاتهم من مكامنها، وحسن توظيفها لصالح الفرد، فلا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادي، وغيره من مظاهر التبعية من جانب مجتمع أو مجتمعات أخرى.
وختاماً، في ظل جيل جديد من الإشكاليات الاقتصادية، تبدو الحاجة بليغة إلى اجتهاد علمي وفكري للغوص في أعماق الاقتصاد السياسي الذي تتسق فيه الحرية بالمساواة والتضامن. وتصبح التنمية رهينة الفعالية الاقتصادية والمساواة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص داخله، بما يضمن حق التعليم والتشغيل للجميع، ويقطع التمييز بين الرجل والمرأة، المركز والجهة، وكذلك المدينة والقرية، ما يعزز ثقافة الاستحقاق بما يقوي التنافس، ويحسن من الطاقات الاستثمارية للوطن، ويجعل الاقتصاد منتجاً بدلاً من ريعي، ويفتح آفاق العيش المشترك واقتصاد السعادة بالمجتمعات.