الحركة الإسلامية والجماهير

الحركة الإسلامية والجماهير

03 ابريل 2019
+ الخط -
الحركة الإسلامية في الأساس حركة شعبية؛ بمعنى أنها خرجت من رحم الشعب، وانبثقت من أعماقه، لتعبر عن ضميره، وتتعايش مع جماهيره، وتنطق باسمه، وتعيش آماله وآلامه. وعندما بدأ الإمام البنا دعوته في الإسماعيلية عام 1928 كان في طليعتها ستة نفر من العمال. ثم بدأ يختلط بالجماهير، يخاطبهم بلسانهم، ويتكلم عن مشاكلهم، ويرسم لهم الحلول. وفي الوقت نفسه بَعُد عن هيمنة الأحزاب والكبراء.

وازداد كل يوم قُرباً من الجماهير؛ فزار أكثر من أربعة آلاف قرية، وسافر في كل صيف إلى محافظات الصعيد، وفي الشتاء كان يزور محافظات الدلتا؛ يعقد فيها المؤتمرات؛ يدعو فيها الناس لفكرته؛ ويوضح قضيته، ويشرح منهجه الجديد، حتى كثر الأتباع، وانتشرت شُعب الإخوان في أرجاء القطر المصري، وقد عبر الكاتب إحسان عبد القدوس ذات مرة عن كثرة الأعداد الملتفة حول البنا فقال: "لو عطس واحد من الإخوان في الإسكندرية لقال له أخوه في أسوان يرحمك الله".

ولقد حاولت القوى المعادية للحركة في داخل البلاد وخارجها؛ وعن طريق الحكام الموالين لها، أن تعزل الحركة عن الجماهير، وتحول بينها وبين الشعب، بعد أن أرهبها الانتشار الواسع، وكثرة الأتباع؛ واستخدمت في ذلك كل وسيلة، بالتشويش والتشويه، وبالتخويف والإرهاب، وبالحظر وإغلاق المقار، وبالسجن والاعتقال، وغير ذلك من حيل ووسائل.


واستمرت الحركة شعبية، حتى مع اقتحامها عالم السياسة، وصمدت رغم ما نزل بها من محن غيبتها لأكثر من عشرين سنة بعد "انقلاب" يوليو 1952، ثم عادت بقوة إلي أحضان الجماهير والطلبة، في العصر الساداتي، أعادت فيه تنظيم صفوفها، وترتيب أوراقها، حتى جنت ثمار تلك الشعبية والجماهيرية؛ الفوز بعدد من مقاعد البرلمان لأكثر من دورة في عهد حكم مبارك، وقد امتدت الحركة إلى النقابات المهنية، وهيمنت على اتحادات الطلبة؛ وكثر نشاط طلاب الإخوان في الجامعات والمعاهد، وأصبحوا قوة ذات تأثير في الساحة السياسية المصرية.

وحين انتفض الشعب على حكم مبارك وثار عليه في ثورة 2011 وأسقطه عن عرشه؛ اختار في أول انتخابات رئاسية بعد الثورة، مرشح الإخوان المسلمين لحكم مصر؛ الرئيس محمد مرسي في انتخابات 2012.

ثم بدأت القوى المعادية في الخارج، والثورة المضادة في الداخل، مرة أخرى في الحيلولة بين الشعب والحركة، عن طريق حملة تشويه وتشويش كبيرة، نشطت فيها وسائل الإعلام الرسمية والخاصة التابعة للنظام القديم والدولة العميقة في نشر الخوف من الحركة، ووصمها بالإرهاب، حتى نجحت في الأخير في صنع شرخ كبير بين الحركة وبين الشعب، لم تستطع الحركة أن تعالجه، حتى تبلورت في شكل تظاهرات واحتجاجات وخروج أعداد كبيرة ضد حكم الرئيس مرسي، في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، والتي اتخذها الجيش ذريعة لانقلاب عسكري، أزاح فيه حكم الرئيس مرسي بعد عام واحد فقط من توليه الرئاسة، في الثالث من يوليو من نفس العام.

وقد نالت محنة الانقلاب من الحركة، وخاصة بعد مذبحة رابعة والنهضة وما تبعهما من مذابح وقتل مباشر. حتى اتسع الرتق على الراقع بين الحركة والجماهير؛ تغير بسببه كثير من المفاهيم والقيم، وخسرت فيه الكثير من أصوات التضامن الشعبية، كما تغيرت بعض نفوس أبناء الحركة تجاه الشعب، ظناً منها بأنها- أي الجماهير- وقفت صامتة تتفرج على الانتهاكات التي تتعرض لها الحركة، والعنف الذي أصابها من النظام العسكري الذي استولى على السلطة؛ ولم تُحرك ساكناً، أو لم تتحرك لوقف هذه المجازر الرهيبة، ومن ثم إدانتها، أو وضع حد لسفك الدماء التي لا تزال تسيل.


يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "ولكن الأخطر من هذا أن تعزل الحركة نفسها عن الشعب، استعلاءً عليه، أو اتهاماً له، أو تهويناً من شأنه، أو يأساً منه، أو انشغالاً عنه، نعم هذا هو الخطر، أن تنسى الحركة موقعها من الشعب وموقع الشعب منها، وأن تنشغل عن هموم الجماهير ومتاعبها، وتتقوقع على نفسها، تكلم نفسها، وتسمع نفسها، وبذلك تسجن الحركة ذاتها اختياراً في قفص العزلة عن الشعب".

ومع كل النجاح التي حققته الحركة منذ نشأتها، إلا أنها تُساهم هي نفسها مع غيرها اليوم في خسارته؛ بتوسيع الهوة بينها وبين الشعب؛ ببُعدها عنه، وترك الفراغ بينهما يكبر، حتى تتمدد فيه القوى المعادية لها. وإنما تحتاج الحركة على وجه السرعة أن تُهرول مرة ثانية إلى أحضان الجماهير، وتبدي الاهتمام بهم، والانشغال بمشاكلهم، والمشاركة الفعالة في حل تلك المشاكل كما كانت تفعل من قبل؛ ولو على حساب الغياب الوقتي عن الحكم لإتمام البنية التحتية الفكرية والسياسية والتنموية والمعرفية والتوعوية. والإقلال من التعمق في السياسة؛ التي أبعدتهم عن الإحساس بمعاناة الشعب، حتى أصبح التعامل مع الجماهير وكأنها مجرد أصوات انتخابية، أو أرقام للصناديق.

كما تحتاج الحركة إلى مزيد من الوقت ربما يطول، حتى تستطيع تحريك الشعب معها، والانتصار لها، والغضب لغضبها، وتقدير مواقفها وجهودها، ولعن خصومها.

تجب عودة الحركة إلى الجماهير في كل مكان، وإلى جميع أطيافها وأنواعها؛ المثقفين والجامعيين، النساء والعمل النسوي، الطلاب والشباب، العمال والفلاحين، رجال الأعمال وأرباب المال والاقتصاد، السياسيين والحزبيين، الإعلاميين والصحافيين ..إلخ.

تجعل همها مع كل هؤلاء؛ الاندماج معهم، كالروح بالجسد، والدماء بالشرايين، تختلط بهم اختلاط الجسد بأعضائه، بحيث لا يمكن الانفصال عن بعضهم البعض، أو عزلهم وتفريقهم. ولا سبيل إلى ذلك إلا عندما تتبنى الحركة هموم الناس وتنفعل بقضاياهم، تفرح لفرحهم وتأسى لأساهم، وتشاركهم في سرائهم وضرائهم.

ونقطة أخيرة يجب أن نقف معها وهي: أن على الحركة أن تكون واضحة مع الجماهير، تضع بين أيديهم برامجها كاملة شاملة لحل جميع مشاكلهم، واقعية في الطرح، مرنة في التطبيق، نابعة من بيئتهم وواقعهم، عبر تجميع عشرات الخبراء في كل فن صناعي وزراعي وخَدمي، ووضع خطة تفصيلية للتنمية الشاملة للبلد كيف تكون؟..

فلم يعد يكفي رفع الشعارات العاطفية فقط دون شرحها بالبرامج والوسائل وآليات التطبيق، بل يجب الانتقال من الجدل والكلام، إلى العمل والبناء، وسرعة الخروج من عقلية التبرير إلى دراسة أسباب التقصير.
F9564B83-FF50-486A-9BC1-A882E1477F2C
وليد شوشة

كاتب مصري مهتم بالفكر والسياسة ورفع الوعي وإعادة تشكيل العقل العربي ليتناسب مع المعطيات الجديدة.يقول: أنا سائح يطلب الحقيقة وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس ومواطن ينشد لوطنه الكبيرالكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة.