الحرب على غزة ومعركة الوعي

الحرب على غزة ومعركة الوعي

31 يوليو 2014

بحرينيات ينتصرن لفلسطين في المنامة أثناء عدوان 2008 (أ.ف.ب)

+ الخط -

ليس العدوان الإسرائيلي الجاري على غزة الأول من نوعه، فهو واحد من سلسلة الجرائم الإسرائيلية على القطاع، والتي ترتكب على مرأى العالم ومسمعه. كما أنها ليست المرة الأولى التي يأتي فيها رد الفعل الدولي الرسمي من الدول الكبرى، أو الأمم المتحدة، مخزياً، بل ومتواطئاً مساوياً بين الضحية والجلاد، ومنكراً حتى للحقوق التي يعترف بها القانون الدولي الذي يتحدثون باسمه. الجديد، هذه المرة، المعركة الموازية التي تدور رحاها في الدول العربية، وموجهة بالأساس، للقضاء على تيار الإسلام السياسي، والذي تنظر إليه الأنظمة التسلطية على أنه المناوئ الأساسي لها، وإن جاء ذلك على حساب الثوابت والحقوق العربية في فلسطين، والتي طالما تمثلت في الدفاع عن حق المقاومة في مواجهة الاحتلال. فقد جاءت بعض كواليس الحرب كاشفةً أبعادها الإقليمية، والتي تتعدّى ثنائية حماس /إسرائيل التي يتم ترويجها لاختزال حقيقة الصراع. وعلى الرغم من أن كواليس كثيرة للحرب بالتأكيد ما زالت مستترة، إلا أن بعضها جاء أكثر انكشافا. فقد ذكر الكاتب البريطاني الخبير في شؤون الشرق الأوسط، ديفيد هيرست، أن دوراً للمملكة العربية السعودية في الحرب الجارية على غزة. وكتب أن شراسة الحرب القائمة لم تكن لتحدث إلا بمباركة طرف غير معلن، وبالأساس عربي، ويخصص المملكة أنها هذا الطرف الخفي. ويشير إلى أن هذا التفويض السعودي بمثابة "السر المعروف" في الأوساط الإسرائيلية، والذي لا يجد

المسؤولون السابقون، أو الحاليون، في وزارة الدفاع الإسرائيلية أي غضاضة في الحديث عنه. وينقل هيرست عن مدير مكتب العلاقات المدنية العسكرية والسياسية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، عاموس جيلاد، قوله إن التعاون الأمني بين تل أبيب ومصر ودول خليجية في أحسن حالاته. كما يوضح هيرست أن نقاشا دار في الدوائر الإسرائيلية حول الدور السعودي والإماراتي في تمويل إعادة إعمار غزة، بعد أن تقلم إسرائيل أظافر حماس، والذي يعني بالأساس نزع سلاحها.
وتكشف المتابعة السريعة للموقف السعودي من الحرب عن التزام الرياض صمتاً كثيراً في التعليق على الجريمة الدائرة، اللهم إلا تأييد المبادرة المصرية، وهي، في ذاتها، لا تنتصر للمقاومة بأي صورة. ويبرز ذلك الموقف التحول في الخطاب السعودي الرسمي، والذي كان دوماً حريصاً على إعلان مساندته حق الفلسطينيين في المقاومة. وهو تحول لم يلاحظ فقط على الخطاب الرسمي، ولكن على الخطاب غير الرسمي أيضا. فقد نشرت الصحف السعودية آراء عديدة تهاجم المقاومة، أو على الأقل، تقلل من قيمة ما تقوم به. ويدعم هذا التغير النوعي في الخطابين تحليل هيرست، والذي يشير إلى أصابع اتهام عديدة عن دور عربي في الحرب، خصوصاً إذا ما أضفنا إلى ذلك ما تردد عن موقف الإمارات من العدوان، وعدائها البيّن، الآن، لتيارات الإسلام السياسي، خصوصاً المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين.
ما يفضح أكثر الموقف العربي عامة، والسعودي-الإماراتي خصوصا، هو الموقف المصري الرسمي وغير الرسمي. غير خاف حميمية العلاقة بين القاهرة والرياض وأبو ظبي، منذ عزل الرئيس محمد مرسي، إلى الحد الذي يمكن معه القول إن مواقف القاهرة أصبحت تتبع الخطوط العامة التي ترسمها الرياض، باعتبارها "كبيرة العرب." وتجلى هذا التنسيق والتفاهم في موقفين، الأول أن الوفد الإماراتي هو وفد المساعدات الوحيد، حتى كتابة هذه السطور، الذي سمحت السلطات المصرية بمروره من معبر رفح الحدودي الذي يقع تحت السيطرة المصرية. ويتعلق الموقف الثاني بالدعم السعودي للمبادرة المصرية، والتي تشير دلائل كثيرة على أنها طرحت، لا لتنجح، وإنما لاتخاذها ذريعة من إسرائيل، لاستكمال جرائمها في غزة، وكذلك اتخاذها ذريعة من الدبلوماسية الغربية، وربما العربية أيضاً، لتحميل حماس مسؤولية المجازر الإسرائيلية برفضها المبادرة. فقد جاءت الطريقة التي خرجت بها المبادرة إلى النور، من حيث عدم استشارة الفصائل الفلسطينية المقاومة، بطريقة رسمية أو غير رسمية، حول بنودها، لتؤكد على هذا المغزى. كما أن المبادرة لم تلزم إسرائيل بوقف الاغتيالات (على غير مبادرة 2012)، إضافة إلى عدم النص كما في اتفاق 2012 على فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع عبر المعابر بصورة فورية، بل علقت مبادرة 2014 فتح المعابر على استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض، وهي صيغة تتيح التذرع بأي ذريعة لإغلاق المعابر، واستمرار خنق قطاع غزة.
وإن جاء الموقف الرسمي المصري متوارياً، فإن موقف الإعلام المصري جاء فاضحاً على أقل تعبير. يكاد المرء لا يصدق أذنيه عندما يسمع ما يتردد على القنوات المصرية، أو ما يكتبه في بعض الصحف "المتصهينون العرب". فهناك رسالة يتم تكرارها بشكلِ لا يدل على عشوائيتها، أو تعبيرها عن آراء منفردة. تدور مفردات الرسالة حول أن إسرائيل ليست بالضرورة العدو، وأن حماس مسؤولة عن الضحايا في القطاع، وتتاجر بدمائهم (في محاولة غير مباشرة للإسقاط على ما حدث ويحدث في الداخل المصري)، وأن الفلسطينيين يقتلون

أبناءنا (في إشارة إلى حوادث استهداف الجنود المصريين). بل وصل الأمر إلى درجة أن يمتدح أحد فلتات الإعلام المصري الجيش الإسرائيلي، ويصفهم بالرجال لما يقومون به في غزة، أو أن كاتبة من أبناء حسني مبارك، ومن أكبر الداعمين للانقلاب تطالب بفجاجة بـ "طرد كل الفلسطينيين من مصر، ومصادرة أملاكهم ومتاجرهم، والقبض على كل متعاطف معهم، واتهامه بالخيانة العظمى، وإلغاء موضوع القضية الفلسطينية من المناهج والإعلام والصحف". وتكفي المقارنة بين الموقف من المذيعة التي كادت أن تتسبب في أزمة بين مصر والمملكة المغربية بإساءتها للأخيرة، والتي انتهت بمنع المذيعة من الظهور على الشاشة، بالموقف من هؤلاء الأدعياء الذين لم تطلهم إلا حملات شبكات التواصل الاجتماعي، لنتبين أن ما يتم ليس إلا جزءاً من إعادة تشكيل الوعي المصري، والعربي بشكل عام، بما يتناسب مع التوجهات والتحالفات الإقليمية الجديدة في المنطقة.
ويزداد شعور المرء بالمرارة، عندما يرى أكاديميين غربيين، بل وإسرائيليين، يطالبون بحظر تصدير السلاح إلى إسرائيل، ويدينون بأشد الكلمات الجريمة الإسرائيلية في غزة، في وقت يحاور فيه أكاديمي مصري في فرنسا أكاديمية إسرائيلية، محاولا اقناعها بعدالة موقف إسرائيل، ومنتقدا تحاملها على الأخيرة. في ظل تبدل المواقع هذا، لا يملك المرء إلا الحسرة على التشوهات التي أصابتنا، والتي لا تعبر إلا عن أمةٍ، عن حق، في أزمة ليست فقط سياسية، ولكن بالأساس أزمة أخلاقية.
يبدو أننا نعيش في ما يمكن أن يطلق عليه "المرحلة الأورويلية"، نسبة إلى جورج أورويل، صاحب الرواية الشهيرة (1984) للإعلام المصري. فقد أصبح علينا أن نصدق، من دون دليل، أن الفلسطينيين يقتلون أبناءنا، ونتناسى صور أسرانا الذين دفنوا أحياء على يد الصهاينة، أو صور أطفالنا الذين استهدفتهم إسرائيل في مدرسة بحر البقر. علينا أن نصدق أن من يناصر المقاومة الفلسطينية خائن، وأن من يدافع عن مجازر إسرائيل في غزة هو المواطن الشريف. علينا أن نصدق أن حماس أكثر خطورة على مصر من إسرائيل، صاحبة أقوى جيش في المنطقة والقوة النووية الوحيدة فيها. علينا أن نصدق أن حماس المعزولة في قطاع غزة هي من تحاصر إسرائيل المحتلة للأراضي العربية في فلسطين. علينا أن نصدق

أن عمليات المقاومة هي التي تتسبب في قتل الفلسطينيين ونتغافل عمن يفقدون حياتهم بسبب التجويع والعقاب الجماعي المتمثل في الحصار الظالم على القطاع.
يبدو واضحا في ظل هذه المتغيرات أننا لا نشهد إعادة إنتاج محور الاعتدال والممانعة من جديد، لكننا نشهد حالة جديدة من التماهي بين المصالح الإسرائيلية والعربية، على حساب الحقوق الفلسطينية، وخصوصاً استهداف المقاومة. ففيما يبدو أن النظم الاستبدادية في المنطقة أصبحت تنظر للمقاومة الفلسطينية باعتبارها حركة معارضة لها، ثم قررت التعامل معها بالأسلوب القمعي العنيف نفسه، الذي تتعامل به مع أي حركة معارضة داخلية. ولكن، الأخطر أن هذه العملية من إقامة هذه التحالفات غير المقدسة تتم بالتوازي مع حرب فكرية على ثوابت الهوية الوطنية والعربية معا. إن فك الارتباط بين الوعي العربي والقضية الفلسطينية هو مرحلة أولى لتفكيك الهوية العربية، وتخندقها في الهويات القومية والقبلية الضيقة. فذوبان الهوية العربية بهذا الشكل يفتح الباب أمام استيعاب الكيان الصهيوني، ففي هذه الحالة، لا فرق بين إسرائيلي أو ليبي أو تونسي، إلا مقدار المصالح المشتركة التي تجمعنا به.
في ظل هذه السموم التي يبثها الإعلام، نظرت إلى صغاري، وهم يلعبون بجانبي، وتساءلت عن مصير أجيال أبنائنا الذين سيكبرون، وهم يستمعون إلى هذه النفايات التي تلقى على أسماعهم. كيف سيفكرون في أنفسهم؟ وكيف سيحددون مواقفهم في ظل حالة السيولة الهوياتية والأخلاقية التي سيشبون عليها؟ وإذا كانت معركة استهداف الوعي قد شوهت بالفعل وعي كثيرين من أجيالنا وأجيال سابقة لنا، من المفترض أنها تربت على ثوابت وطنية راسخة، فإلى أي مدى سيشوه وعي أبنائنا؟ 
علموا أولادكم أن ينتصروا للحق، حتى لو اختلفوا مع أصحابه. علموهم أن المقاومة شرف، والدفاع عنها وعمن يمارسها واجب. علموهم أنه أبداً لن يستوي الأخ مع العدو، مهما اختلفت دروب الإخوة. علموهم أن فلسطين عربية، وعاصمتها القدس الموحدة. والأهم، علموهم أن الإعلام فيه سم قاتل، وعليهم أن يجتنبوه.