الحجاب بين الإجبار والاختيار

الحجاب بين الإجبار والاختيار

17 يونيو 2018

مريام يوجيتو في باريس.. اسم يشغل الإعلام (2/5/2018/فرانس برس)

+ الخط -
احتدم، منذ أسابيع، جدل سفسطائي بشأن "ظاهرة" الشابة ميريام بوجيتو، الطالبة المحجّبة التي انتخبها الطلاب والطالبات لتكون رئيسة اتحادهم، ذي التوجه اليساري في جامعة باريس الرابعة. شغل هذا الأمر "الجلل" الإعلام المتعطّش، خصوصاً في هذه الفترة، إلى ما يمكن أن يُعالج بعمق، أو بخفة، مسألة الإسلام عموماً، والحجاب الإسلامي في المجال العام خصوصاً. كما أثار ردود فعل مفاجئة بعنفها وبإقصائيتها، ليس فقط من اليمين المتطرّف المشهور برهابه من الإسلام، وعدائه له، وإنما أيضا من أوساط حكومية، كوزير الداخلية ووزيرة المرأة. وقد جاءت هذه "القضية" العامة بعد وقت قصير من إثارة قضية شبيهة لها، بأبعاد مختلفة، ارتبطت بالشابة منال التي تألقت في برنامج فني، وجرى دفعها إلى الانسحاب، بعد أن أثيرت أيضاً مسألة ارتدائها الحجاب، إضافة إلى اقترافها تغريداتٍ صبيانية.
"السيد" إسلام لدى الرئيس ايمانويل ماكرون، كما يُطلق عليه بالفرنسية، حكيم القروي، وهو شاب لامع، تونسي الأصل، كان يكتب خطابات رئيس الوزراء السابق، جان بيير رافَران، يربط، بمقاربةٍ لا تخلو من الذكاء، الموقف السلبي المتصاعد لدى جزءٍ من المجتمع الفرنسي تجاه الحجاب، بالأقانيم الثلاثة المؤسسة للديمقراطية الفرنسية، والتي كانت شعار ثورتها، وما تزال مرجعية جمهوريتها، وهي: الحرية والمساواة والإخاء، فلدى جزءٍ يتوسع من الفرنسيين، يُنظر إلى الحجاب كأنه أمرٌ مفروض على المرأة، من دون أخذ إرادتها بالاعتبار. وبالتالي، 
اعتداء على مبدأ الحرية. إضافة إلى ذلك، يعتبر الحجاب بالنسبة للمجموعة ذاتها رمزا لخضوع المرأة للرجل، أو إخضاعها له. وبالتالي، هو ينتهك مبدأ المساواة. وأخيراً، يعتبر الحجاب أيضاً طريقة سلبية للتمايز عن بقية مكونات المجتمع الفرنسي، وبالتالي الانفصال عنه، ما يمسّ مبدأ الإخاء. ولكن القروي، وإن اكتفى بهذا التوصيف اللمّاح، ينسى أو يتناسى، لضرورة المنصب ربما، أن يُضيء جانباً آخر مرتبطا بهذا التوجه السلبي، وهو يتمثّل بالتوجّه المتصاعد لفئات عمرية مختلفة، كما انتماءات طبقية متنوعة في مسار معاداة الدين الإسلامي بالمطلق، تأثراً بخطاباتٍ شعبويةٍ، تؤججها مواقف اليمين المتطرف، أو من يلوذ به من يمين وسطي أو يسار معتدل في سعيٍ إلى تعزيز الفرص الانتخابية المعتمدة أكثر فأكثر أوروبياً على لغة الخوف من الآخر المختلف. وقد وصل الأمر ببعض التعليقات إلى اعتبار مجرد ارتدائه مؤشرا حتميا للانتماء إلى الإسلام السياسي.
في مقابل هذا الخطاب المتوازن شكلاً، والذي يمكن أن يكون في حالاتٍ ما صحيحاً، والمُحابي عملياً للتوجه العام المعادي لحرية الاختيار، في حمأة الاستعدادات القائمة لانتخابات مقبلة للبرلمان الأوروبي، في جو يشهد صعودا متعاظماً لمختلف التيارات اليمينية المتطرّفة المعادية للأجانب الفقراء عموماً، والمسلمين منهم خصوصاً، أو الشعبوية عديمة الأيدولوجيا، والتي تقول الشيء ونقيضه، يُحاول بعض "العقلاء" من الباحثين والصحفيين اللجوء إلى الحذر والتحذير. الحذر من الاستنتاجات السريعة والمبسترة، والتي تربط الحجاب بالخضوع والإخضاع، على الرغم من إمكانية وقوعه. والتحذير من مواجهة مرتديه بالإقصاء والتمييز، وبالتالي دفعهم، ومن يلوذ بهم باتجاه الانغلاق والتطرّف. لكن سرعان ما تصطدم هذه الجهود بأحداثٍ مُحبطة لحججهم، وتعطي بعداً ثقافوياً، يمكن له أن يُضعِفَ من موقفهم وسعيهم. ومن الأمثلة الأخيرة، عظيمة التأثير في الرأي العام، جرت في مدينة نانسي الفرنسية، هاجم شقيقان منزل شقيقتهما التي تستضيف لديها صديقا لها. وعلى الرغم من أن عامل الدين لدى صديقها متوفر نظرياً، فهو مسلم، إلا أن الشقيقين، صاحبي السجل الحافل بالارتكابات الجرمية الصغيرة، وتهريب 
الممنوعات، والإقامات السجنية المتقطعة، اعتبرا ما تقوم به شقيقتهما الراشدة البالغة خروجا عن الدين والعادات، وأشارا في أثناء التحقيق معهما إلى أن ما قامت به شقيقتهما يُعتبر جرماً معظّماً في أثناء شهر رمضان. وقد قاما بضربها وتعذيبها، مشوهين وجهها، ومحطمين أضلاعها. حادثة واحدة كهذه يمكن أن تؤدي الى تخريب جهود عشرات، بل مئات من العقلاء الذين يبذلون الجهد العلمي والتحليلي والإعلامي، للدفاع عن مجتمع فرنسي متنوع، يمكن لكل مكوناته، كما ينص عليه القانون، أن يمارسوا بكل حرية معتقداتهم. ويُعطي، شاءت العقلانية أم أبت، حججاً قوية لمن يعتبر أن المسلمين غير قابلين للاندماج، ويسعون إلى فرض قانونهم الذاتي، اجتماعياً بداية، وربما سياسياً لاحقاً.
في رسمٍ ساخر ذكي مُعبّر، جلست سيدة ترتدي لباس السباحة العادي، تُحيط بها مجموعة من الرجال الملتحين يرمقونها بنظرات الغضب الممتزجة بشهوة مكبوتة. وإلى الطرف الآخر من الرسم، جلست فتاة تلبس لباس البحر الإسلامي، وتُحيط بها أيضاً مجموعة مماثلة عددياً من الرجال، يرمونها بنظرات الاستهجان. الطرفان يؤطران المرأة الضحية (في كلتا الحالتين) في كليشيهاتٍ معلبّةٍ وأفكار مسبقة عن لباس البحر الطبيعي ورمزيته من جهة، وذاك اللباس الإسلامي، ومعانيه الحقيقية والمتخيلة من جهة أخرى. ويكاد الاعتقاد يتأكد يوماً بعد آخر، في ظل الجهل المتبادل، بأن المجتمعات الأوروبية تتجه شيئاً فشيئاً باتجاه استقطابٍ عنيفٍ غير مُبشّر، في المدى المتوسط على الأقل، للمحافظة على الحرية والمساواة والأخوة.