الحب والحرب والوطن... في رواية "الانطباع الأخير"

الحب والحرب والوطن... في رواية "الانطباع الأخير" لمالك حداد

05 يوليو 2020
+ الخط -

مع بداية شهر يونيو/ حزيران, مرت ذكرى وفاة الكاتب الجزائري مالك حداد (05/07/1927 - 02/06/1978) الذي أعلن عن منفاه في اللغة الفرنسية، ورغم أنه يكتب بغير لغته الأم، إلا أن كتاباته تعبر عن تراثه الوطني وجذوره العربية..

فهو يؤمن بأن الكتابة الإبداعية هي في عمقها كتابة الذاكرة، كما يقول م.برادة، حيث تؤرخ كتابات مالك حداد في الرواية والشعر، لذاكرة وطن وشعب ناضل لنيل حريته. أصدر ديوانه الأول"الشقاء في خطر" سنة 1956، واتسم شعره بالنزعة الإنسانية.

وفي سنة 1958 أصدر روايته الأولى"الانطباع الأخير". نالت أعماله اهتماما كبيرا من المترجمين العرب، ومؤخرا من المترجمين الجزائريين، كترجمة الدكتور السعيد بوطاجين لرواية "الانطباع الأخير" الصادرة عن منشورات الاختلاف سنة 2003.

ارتكز الخطاب الروائي في"الانطباع الأخير" على ثلاث ثيمات أساسية هي: الحرب والحب والوطن، تتداخل هذه الثيمات فيما بينها، وتبرز من خلال علاقة الشخصيات التي تشكل أحداث الرواية. تبدو الرواية للوهلة الأولى وكأنها سرد ذاتي ينقل قصة خاصة بالبطل سعيد، لكن ما وراء سطورها يوحي بدلالات أعمق، مما تبدو عليه، إذ تنقلنا من التجربة الخاصة إلى تجربة عامة، هي حالة وطن في مرحلة ثورة من أجل التحرر.

يمثل الحب قيمة إنسانية، لا يمكن للفن أيا كان نوعه أن يتخلى عنها، فالحب يمنح الفن جاذبيته وسمته الإنسانية. لكن هل يصمد الحب في زمن الحرب؟

شكلت الحرب الثيمة الأساسية في الرواية، إذ استند إليها السرد في تغيير مصائر الشخصيات وربط علاقاتها، وكشف مواقفها وآرائها. وبانطلاق الحرب في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 يتغير وجه المدينة، تحتل الدبابات والقوافل العسكرية والأسلاك الشائكة شوارعها، ويفرض حظر التجول ليحد من حركة الناس. وبذلك تصبح الحرب هي المحكّ الحقيقي لإبراز مواقف الشخصيات المنتمية إلى الوطن والداعمة للثورة، أو تلك المناهضة لها.

من الصنف الأول تبرز شخصية بوزيد شقيق البطل الذي التحق بصفوف القتال منذ البداية، بينما أعلن صهره "شريف" معارضته للحرب، وجنوحه للتعايش مع الوضع كما هو، لذلك قرر الهجرة إلى فرنسا، لأن العيش في الجزائر صار مستحيلا،"ليس لنا ما نفعله هنا.. هناك على الأقل بإمكاننا العيش بسلام .. هنا لم تعد الحياة ممكنة".

يرى بطل الرواية أن "في كل ذهاب، هناك شيء من الهروب الذي يشبه التخلي عن الواجب"، أما البقاء في الوطن، فهو بطريقة ما، وفاء لمبادئ الثورة.

من خلال موقف "شريف" يطرح السرد وجهة نظر الفئة التي اصطفت مع العدو إبان ثورة التحرير، وهل هي فئة خائنة لوطنها وتاريخها، أم أنها تبحث عن مصالحها الشخصية؟ وفي هذا الشأن، يتساءل السرد: "أين تبدأ الخيانة؟ وأين تنتهي؟ أليست نقصا في المروءة؟ أن تخون معناه أن تشكك في حقيقة الآخرين".

والآخرون هنا هم بوزيد وسعيد والأمهات اللواتي دفعن بأبنائهن للقتال، وكل الشعب الجزائري الذي اصطف إلى جانب ثورته رافضا الاستعمار. من جهة أخرى، يوضح السرد موقف شريف النابع من طيبة وعدم إدراك للحقائق "حاولوا أن تعرفوا لماذا شريف البربري الصغير الذي ركض تحت شجر الزيتون والتين القبائلي، أصبح فرنسيا متوسطا، لقد زعم أن القبائل لا يشبهون العرب. لقد زعم أن الحشيش سينبت في ساحة الحكومة بمجرد أن تنال الجزائر استقلالها".

يعتقد شريف ومَن على شاكلته أن الجزائر لا يمكنها، في حال نيل استقلالها، أن تسيّر إدارتها وستحتاج إلى إطارات فرنسية متخصصة، ومن ثم لا جدوى من الاستقلال. بالإضافة إلى أن شريف البربري ابن هذه الأرض، يعتبر نفسه ليس كباقي سكان الجزائر العرب متأثرا في ذلك، بالسياسة الممنهجة التي اتبعتها فرنسا منذ دخولها إلى الجزائر سنة 183، ومحاولتها جذب سكان منطقة القبائل/ البربر إلى صفها لفصلهم عن العرب، مقنعة إياهم بأنهم لا يشبهونهم، وبالتالي فموقف شريف الرافض للحرب، لم يكن بسبب البحث عن مصالحه الشخصية فحسب، بل ينبع أيضا من اقتناع شخصي مصدره سياسة فرنسا القائمة على مبدأ فرّق تسد التي تتجلى بوضوح في حوار البطل مع بعض الفرنسيين "أنت يا سعيد، أنتم لستم كالآخرين. معكم يمكن أن نتحدث.. عن روني شار وبيتهوفن.. نخاطبكم بضمير أنتم، لا نقطب وجوهنا تقززا.. معكم يمكن أن نتفاهم"، لكن رد سعيد كان حاسما، برفضه التفريق بين الجزائريين "خطأ! إني كالآخرين، إني مع الآخرين.. كل شيء يربطني بهم.. الوحيدون الذين أستطيع أن أفهمهم فعلا، هم أهلي".

يؤسس خطاب الرفض هذا لفشل سياسة فرنسا المبنية على التفريق بين أطياف الشعب الواحد، لتسهل السيطرة عليهم.

ينبني السرد في رواية "الانطباع الأخير" على ازدواجية الخطاب الموزع بين سرد موضوعي وسرد ذاتي، ورغم كثرة شخصياتها إلا أنها مقيدة، يتحكم في حضورها السارد الغائب، فباستثناء حواراتها الخارجية القليلة، يكاد صوتها يختفي من السرد، في مقابل ذلك تحضر مونولوجات البطل بكثافة، عاكسة مشاعره وأفكاره، ما أدى إلى هيمنة السرد الإخباري الذي تقل فيه الأحداث، لنكون أمام حكاية أقوال حسب "جينيت".

يعوض المؤلف الاقتصاد في الأحداث بتكثيف اللغة الشعرية، والاعتماد على الرمز الموحي. يعتبر الرمز من الوسائل الفنية الجمالية التي يعتمدها الروائي لإيصال أفكاره، لما للرمز من حمولات دلالية، تشرك القارئ في تأويل النص ومنحه أبعاده الفكرية.

وظف المؤلف العديد من الرموز بشكل واضح وجلي، أهمها المرأة والجسر.. توظف المرأة عادة، كرمز يوحي إلى الوطن، وقد استعان بها المؤلف بطريقة واضحة، يمكن الاستدلال عليها من خلال شخصيات: لوسيا، ومليكة، وليلى.

من خلال أحداث الرواية، نتعرف إلى علاقة الحب التي تجمع بين البطل سعيد، والمدرّسة الفرنسية الجميلة لوسيا القادمة من بروفانس، وحضورها في الرواية يرمز إلى فرنسا، إلى منظومة ثقافية مختلفة تماما عن منظومة الآخر المستعمَر.

ترتبط لوسيا مع سعيد بعلاقة غير شرعية، مرفوضة من الجميع، وقد بدت قوية في البداية، لكنها سرعان ما بهتت وأصابها الفتور بمجرد إعلان الحرب، وبدء عمليات الاغتيال التي ترد عليها فرنسا بالاعتقال والاغتصاب والتعذيب، ما أدى إلى توسيع الهوة بين الحبيبين.

لقد أحبت لوسيا سعيد، لكنها كرهت بلده وأهله الذين رفضوا ارتباطها به، وحين أحست بتغير في معاملته لها قررت العودة للعمل في وطنها الأم، هذه العودة المحملة بالدلالات الرمزية الموحية، لا يمكن ورودها في السرد اعتباطا، وقد تزامنت مع اشتداد العمليات العسكرية في المدن بين الثوار وجنود فرنسا، مما تسبب في إصابة لوسيا برصاصة طائشة قبل سفرها، لتعود إلى بلدها في تابوت، وفي ذلك إيحاء لمآلات الثورة، فما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالرصاص والدم، وهو الانطباع الأخير الذي توصل إليه البطل.

وبتغيّب لوسيا عن السرد، تحضر مليكة ابنة الجزائر التي ترمز للوطن والأرض، تخاطب البطل بلغة بسيطة لكنها موحية، "أحبك مذ كنت صغيرة جدا"، ليبذل هو روحه فداء لهذا الحب ولهذه الأرض. تحضر أيضا، شخصية ليلى أخت سعيد، كرمز للإنسان الجزائري الرافض لترك وطنه مقابل العيش الرغيد في فرنسا، إذ ترفض الهجرة مع زوجها شريف، ويساندها سعيد في اختيارها. وكما في كل حرب ينكسر الحب، وينتصر الموت. يلتحق سعيد بصفوف الثوار، بعدما عثر على نفسه وصار "بإمكانه أن يلاحظ أنه يشبه نفسه بغرابة".

ابتعدت رواية "الانطباع الأخير" عن البناء الكلاسيكي التقليدي، لاستعانتها ببعض التقنيات الفنية، ورغم قلة أحداثها، إلا أن توظيف الرمز والاعتماد على لغة شعرية مكثفة أضفيا عليها جمالية مميزة.