الجُبَب الصفراء

الجُبَب الصفراء

17 مارس 2019
+ الخط -
إذا فوجئت فرنسا بتظاهرات أصحاب السُترات الصفراء، التي يطالبون من خلال ارتدائها بتحقيق المطالب، حيث خرجوا عن بكرة أبيهم وقصدوا الشارع العمومي بغية تحقيق المساعي، فإن في المغرب أيضاً أصحاب الرداءات الصفراء منذ عهدٍ تليد قبل أن تظهر في بلاد الإفْرنج..

لذلك، الدولة لا تستغرب وجودهم، فهم ينتشرون في ربوع وأرجاء المملكة، حيث نجدهم في الطرقات والشوارع والأزقة وما إليه من الفضاءات، التي تعرف وجود السّيارات والشاحنات والدّراجات النارية والهوائية، هؤلاء لا يحتجّون على الدولة ولا يصطدمون مع الشرطة في شيء، لأنهم لا يحملون لافتات شجب أو استنكار، فقط يأتزرون مَحافظ النقود التي يدسّون فيها بعض الدُّريهمات من عند أصحاب السيارات والدراجات المركونة بجانب الأرصفة، وكذا صفّارة يُصفّرون بها على الذين يفرّون دون أن يدفعوا سِعر رَكْن مركبتهم في المَوقف.

هذه الفئة التي تحرُس، أو بالأحرى تحرَص على استتباب وتأمين وسائل نقل الناس من شتّى صنوف وسائل النقل الخاصّة، قد استشرت وتكاثرت في السنوات الأخيرة، فبالكاد ترى شارعاً يَخلو من أصحاب الجُبب الصفراء، ولا سيما في المدن التي تشهد تَعداداً سُكّانياً غفيراً، حيث قد نجد بين كل حارس عسّاساً، وهذا لا يبعث على الغرابة والشده، لأن مجال الحراسة هذا يبقى مفتوحاً على دفّتيه والباب فيه مُشرَع والقانون لا يسري عليه، إلا في بعض المواقف التي يُنظّمها المجلس البلدي للمدينة، بحيث يمنح أو يُبرم صفقات وعقوداً مع شركات خاصة تتكلّف بتسيير وتدبير هذا القطاع الذي يتخبّط في العشوائية والفوضى العارمة.


الفضاء العام الذي يحتلّه ويستعمره حرّاس المواقف، خاصة أولئك الذين ليس بحوزتهم أيّ تصريح من شأنه أن يُفضي إلى أنهم مستأجرون للأمكنة التي يستحوذون عليها دون موجب شرعٍ أو قانون، لكنهم حوّلوها إلى مشروع بدون رأس مال، ويصعب كثيراً تحرير الشارع من نير هذا الاحتلال الغاشم، فقد تركن سيارتك وتترجّل منها وتذهب إلى قضاء حاجتك على وجه السرعة، وحينما تعود يقابلك شخص يرتدي جُبّةً صفراء يطالبك بتأدية سِعر التوقف، وإذا امتنعت عن ذلك فستُرشق على الفور بأقذع النعوت والأوصاف، وهذا أضعف توقّعٍ قد يحصل لك، فقد تدخل في عراك وشجار معه، يؤدي إلى أقرب مخفر شرطة، ساعتها أنتما سيّان أمام القانون الذي (لا) يحمي المغفّلين.

لكن هناك بعض العَسس أو الحراس يتوفرون على رُخصٍ قانونية تفوّض لهم حراسة المواقف، دونما مشاكل أو متاعب مع الزبون الذي يؤرقه في بعض الأحيان إيجاد موقف يركن فيه وسيلة نقله التي تُقلّه إلى مكان عمله أو بيته، حيث يظل هذا الزبون يلّف ويدور لعلّ وعسى يجد ركناً أو موقفاً يركن فيه سيارته، خاصةً إبّان أيام الذروة والاكتظاظ، فحينذاك يكون البحث عن صاحب السترة الصفراء، كالتفتيش عن إبرةٍ في كومة كُناسة.

ولا يختلف أصحاب السترات الصفراء بفرنسا عن أضرابهم بالمغرب من حيث البنية العمرية المتنوعة، فالقاصرون والبالغون والشباب والشُّياب والكُهول والنساء جميعهم يمتهنون مهنة الحراسة والمراقبة، فهي حِرفة لا تخضع إلى معيار السّن بقدر ما تحتاج إلى الصبر والتجلّد.

ناهيك عن البيئة التي يشتغلون فيها ذوي الجِباب فهؤلاء ليست لهم بيئة مكيّفة تَقيهم حرّ الشمس اللافحة في الصيف ولا تحميهم أيضاً من قرّ الشتاء البارد، كما أنهم دون تغطية أو ضمانة صحيّة، إنهم يعملون في ظروفٍ بئيسة وقاهرة.

لا مجال للمقارنة بين أصحاب الجباب الصفراء في فرنسا وبين الذين يذيعون في الفضاءات العامّة يسترزقون الدُريهمات بحثاً عن لقم العيش، ويعتقد الكثير من الناس أن هذه الفئة تَشحذ وتتسوّل بمهنة كهذه، وهذا سوء فهم ينمّ عن قصور معرفي حول هؤلاء الحرّاس الذين يُسدُون خدمات محترمة تتجلّى في حراسة ومراقبة وسائل نقل النّاس، وهذا يشي بأنهم لا يتسوّلون أحداً، رغم الامتعاض والحنق الذي يتسبّب فيه البعض منهم.

اللافت للنظر أن ذوي السترات الصفراء يُؤدّون مساعداتٍ ثمينة لرجال الشرطة، والأمن يستعين بهم في جمع المعلومات والأخبار التي تتعذّر عليهم معرفتها، ما يجعلهم في منأى عن ارتطامهم بالسلطات المحلية التي تشنّ حملات بين الفينة والأخرى لتحرير المِلك العام من المحتلّين له، لذلك قد يصبح هؤلاء العَسس بمرتبة مُخبرين يعملون بنياشين أمنية مستترة لا تظهر للعيان..

فشتّان إذاً بين سُترة الإفْرنجْ الصفراء الفاقعة اللون، التي يَعجّ بها الشارع الفرنسي بهدف تحقيق المطالب والمكاسب وبين سُترة المغرب الصفراء الباهتة والشاحبة التي أهلكها الدهر والزمان حيث يضجّ بها الفضاء العمومي هي الأخرى، لكنّها لاستدرار دراهم محسوبة فحسب لا تغني ولا تسمن من جوع.
C05B7C00-9625-436F-8731-452E6AE23884
عبد الجليل شرفاوي

حاصل على شهادة البكالوريوس تخصص علم الاجتماع من جامعة محمد الخامس بالرباط.

مدونات أخرى