الجيش السوري ما بين التعفيس... والتعفيش

الجيش السوري ما بين التعفيس... والتعفيش

16 مايو 2014
+ الخط -
مفردات لا بد من شرحها
التعفيس: عمليات السحق، وتعتمد أساساً على الدعس بالأحذية
التعفيش: عمليات النهب، وربما جاءت التسمية من نهب عفش البيوت تحديداً
"علي عباس.. إي أبو هادي.. عفس عفس"
من منا لا تهاجم روحَه، لدى استعادة هذه الجملة الشهيرة في ذاكرته، كوابيس ذلك اليوم المشؤوم، عندما انتهكت جماعات، تطلق على نفسها زوراً وبهتاناً "حماة الديار"، أجساد أهالي قرية البيضا في بانياس في مارس/آذار عام 2011، مستخدمة عدّتها الوحشية في "التعفيس"، عقاباً لهم على ما اقترفوه من إثم عظيم، بخروجهم في تظاهرة سلمية تنادي بالحرية؟!
 لم تكن الثورة السورية قد تجاوزت الشهر وبضعة أيام من العمر، عندما قرر الطاغية المسكون غباءً وغروراً سحقها، فأوعز إلى "جهاته المختصة"، ونعالها البربرية، لتأخذ حصتها من أجساد شباب القرية، ورجالاتها العزّل، وهم مرميون ومقيّدون في الساحة العامة، فإذ بها تدوسهم من دون تردد وبلا رحمة، فيما المتفرج على المشهد يكاد أن يسمع طقطقة عظامهم، وهي تتكسر تحت ضربات العصي و"تعفيس" الأحذية، ليكتمل مشهد الإذلال، بسيل من الشتائم والألفاظ النابية التي تخدش الحياء، وتخلّف في النفس جراحاً غائرة يصعب التئامها.
يومها، انقسم السوريون بين مصدّق ومشكّك ومنكر، وما زالوا كذلك حتى اللحظة. صحيح أن للتضليل الإعلامي الذي مارسه النظام السوري، ولا يزال، دوراً كبيراً في حالة الانقسام تلك، إذ سعى، آنذاك، مثلاً إلى تكذيب الحادثة، والادعاء أنها وقعت في العراق على أيدي قوات من البشمركة، إلا أن الدور الأكبر قد يُرد إلى تشبث قسمٍ لا يستهان به من السوريين، أنفسهم، بوهم مُسكرٍ للضمير، يقول، في سريرته، إن "جيش الوطن" لا يمكن أن يقوم بهذه الأفعال الشائنة، وإن "حماة الديار" المسؤولين عن حماية البلد، وكرامة أهلها، تربوا على الفضائل الوطنية، ومواجهة أعداء الوطن، بما يجعلهم أصحاب خلق رفيع، وربما تخوف منكرون أن يبدو "جيشهم العقائدي" أكثر توحشاً وانحطاطاً من الصورة المرسومة في الذاكرة لجيش العدو الإسرائيلي، إذ ربما من شأن ذلك أن يقتل أرواحهم بالخزي والعار، عند اكتشافهم حقيقة أن أبناء جلدتهم المنوط بهم حمايتهم أكثر انحداراً وانحطاطاً من عدّوهم.
اليوم، مع دخول الثورة السورية عامها الرابع، يعود مشهد "التعفيس" بحلة جديدة، وقد تربعت على عرش حرفُه الأخير ثلاث نقاط بدخول "الجيش العربي السوري" طور "التعفيش"، فقد وثّقت عدسات الكاميرات جرائم النهب والسرقة التي قام بها في أحياء حمص، بعد انسحاب المقاتلين منها، لتظهر لصوصيته بوضوح صادم للمنكرين الذين كانوا يأملون ألا تكون بهذه الفجاجة، لكي يستمروا مرتاحي الضمير في لعبة الإنكار الأزلية.
مشهد الجندي، أو الضابط الذي يفتخر بحصوله على "الغنيمة"، وكأنه حقق نصراً مبيناً على العدو التاريخي، صادم، حتى لأولئك العارفين بحقيقة "الجيش المغوار" و"الجيش الباسل". إنه مشهد مؤلم، ومثير للسخرية والاشمئزاز في آن معاً، أن تقع عينا المرء على جنود وضباط يرتدون البزات العسكرية المموهة، وهم مدججون، هذه المرة، بأكياس وصناديق محشوة بممتلكات أهالي حمص، النازحين عن بيوتهم، أو يحملون الأدوات الكهربائية والمنزلية وجرار الغاز، وفي الوقت نفسه، يبتسمون فرحاً بانتصاراتهم "المجيدة"، وحصولهم على "الغنائم" من أهل بلدهم.
سوريون كثيرون كانوا يعلمون أن "جيشهم المغوار" خاض، في السابق، نضالاتٍ مماثلة في "التعفيش"، مرة في حماة، ومرات أخرى في لبنان عقوداً من الزمن، وقد طاول "تعفيشهم" كل شيء، البيوت ودور العبادة والمؤسسات والشوارع، ولم تنج من أيديهم الحيطان وسيراميك الحمامات. وسوريون كثيرون يعلمون، أيضاً، من واقع خدمتهم العسكرية المؤقتة أن اللصوصية و"التعفيش" يشكلان عماد العقيدة الواقعية لـ"الجيش العقائدي"، فيما الكلام المعلَن مجرد هراء، لستر هذه الحقيقة.
يقيناً أن أهل "التعفيس" و"التعفيش" لم يهبطوا علينا فجأة، من كوكب آخر، وهم ليسوا كائنات فضائية، بل كانوا أقرباء وأصدقاء وجيراناً، ينحدرون من مناطق سورية وفئاتها وطوائفها المختلفة، لم يجهدوا أنفسهم، يوماً، بتلميع صورتهم، وكانوا يمارسون فسادهم وسطوتهم طوال عقود، علناً بلا تردد، ولا خوف من الحساب، بل وبتشجيع وتسهيل من سلطة فاسدة، أتقنت لعبة إفساد المجتمع والبشر والحجر.
ما يحدث في سورية، اليوم، لم يعد يترك فرصة للأوهام، لكي تستقر في الأذهان، أو فرصة للهروب أمام الحقائق الفاقعة، فكل شيء واضح، إلا في رؤوس من يريدون أن يدفنوا رؤوسهم في الرمال، ليستمروا في لعبة الإنكار الجميلة والمريحة، ويتابعوا إظهار دهشتهم البلهاء أمام الوقائع التي تفقأ العين والقلب والعقل!

 

CFADE90B-5821-4C8B-9B3B-7BD856FDAFCD
هزار الحرك

صحافية سورية. عملت خلال فترة تزيد على 15 عامًا في إعداد وإنتاج البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية، ودوبلاج أفلام الكرتون المصورة لقنوات متنوعة، ثم انتقلت إلى العمل الصحافي المكتوب، ونشرت مقالات عدة تتناول الواقع الاجتماعي والثقافي والفني في سورية، وبلدان المهجر. تؤمن بدور الثقافة والفن في تغيير الواقع المأساوي، وتحلم بسورية حرّة، خالية من كل صنوف الاستبداد.