الجنيه المصري والمرض الهولندي

الجنيه المصري والمرض الهولندي

29 يناير 2020
كابيتال إيكونوميكس يتوقع ارتفاع الدولار في مصر(فرانس برس)
+ الخط -

 

في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، تم اكتشاف كميات مهولة من احتياطيات الغاز الطبيعي في بحر الشمال في المناطق التابعة لهولندا، الأمر الذي ترتب عليه زيادة كبيرة في صادراتها منه، وارتفاع قيمة الجيلدر الهولندي أمام الدولار الأميركي، وأمام العملات الأوروبية الأخرى، خلال السنوات التي تلت تلك الفترة.

وعلى عكس ما كان متوقعاً ذلك الوقت، لم تفلح صادرات الغاز في جر قطاعات الاقتصاد الأخرى ودفع معدلات النمو وزيادة معدلات التوظيف، وإنما ظهرت العديد من المؤشرات السلبية، حيث ارتفعت البطالة خلال الفترة من 1970 إلى 1977 من 1.1% إلى 5.1%، وانخفضت معدلات الإنفاق الاستثماري للشركات الهولندية، كما تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد للبلاد في القطاعات غير النفطية.

ومع فشل الوضع الخارجي للاقتصاد الهولندي في معالجة الداخل المريض، فسر اقتصاديو مجلة الايكونوميست الشهيرة في ذلك الوقت الظاهرة بارتفاع قيمة العملة الهولندية، نتيجة لزيادة الطلب على صادرات الغاز الهولندي، الأمر الذي رفع تكلفة شراء المنتجات والخدمات الهولندية الأخرى في الأسواق الدولية، فيما أطلقت عليه المجلة اسم "المرض الهولندي".

ومع تزايد الاستثمارات الموجهة، من الداخل والخارج، إلى استخراج الغاز الطبيعي، كثيف الحاجة لرأس المال، وقليل الاعتماد على العنصر البشري، لم تُخلق نهضة القطاع وظائف كافية، فلم ينعكس نجاحه على الاقتصاد ككل، بل تراجعت القطاعات الأخرى، مثل الصناعة والزراعة، حيث هربت منها رؤوس الأموال، مفضلة قطاع الطاقة، الأمر الذي أثر على معدلات النمو الاقتصادي في البلاد.

وفي السبعينيات، ضرب المرض الهولندي بريطانيا، عندما ارتفعت أسعار النفط بصورة كبيرة، سمحت للأخيرة بالبحث عنه في بحر الشمال، قبالة السواحل الاسكتلندية، لتتحول البلاد مع نهاية العقد إلى مُصَدِّر صاف للنفط، ولترتفع قيمة الجنيه الاسترليني مقابل الدولار بصورة ملموسة.

ومع ارتفاع قيمة العملة، وطلب العمال البريطانيين أجورا مبالغا فيها، تراجعت تنافسية المنتجات البريطانية، وانخفضت الصادرات وسقط اقتصاد البلاد في الركود. وحدثت أمور مشابهة في كل من كندا في 2014، وفي روسيا في 2016، نتيجة لمعاناة اقتصاد البلدين من نفس المرض.

وفي مصر، سعدت الحكومة والكثير من مؤيديها بارتفاع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي، الذي اقترب من 10% خلال العام المنتهي 2019، ثم استمرار ارتفاعها خلال ما مضى من العام الجديد. ورغم تواصل ارتفاع الدين الخارجي للبلاد، ووصوله إلى أكثر من 109 مليارات دولار، يصر "محللو الحكومة" على أن ارتفاع الجنيه مبررٌ، وأنه ناتج عن نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي وتحسن ميزان المدفوعات المصري، بعد اكتشافات الغاز الكبيرة في حقل ظهر وغيره، واستعادة السياحة لعافيتها، واستثمارات الأجانب في الأوراق المالية المصرية!

ورغم إشارتنا في كتابات سابقة إلى أن الارتفاع في سعر الجنيه مقابل الدولار يتم من خلال تحديد البنك المركزي المصري لسعر العملة المسموح التعامل به، مع قيام البنوك الحكومية بضبط الإيقاع في سوق الانتربنك، وتأكيدنا أن حجم الارتفاع الفعلي الذي تم خلال الفترة الماضية يعد مبالغا فيه بالمقارنة بمقدار الزيادة في صادرات الغاز وإيرادات السياحة واستثمارات الأجانب في أذون الخزانة، وأن البنك المركزي يعتمد في مقابلته لطلبات شراء الدولار على ما يتحصل عليه من قروض من المؤسسات الدولية، كما السعودية والإمارات، يأتي تشخيص المرض الهولندي ليلقي بمزيد من الضوء على حقيقة الحالة الصحية للعملة المصرية، وما تشهده من انتعاشة.

وبينما يمثل الاعتماد على القروض الخارجية، التي تُمد آجالها ويعاد ربطها ويؤجل سدادها، في تلبية احتياجات المستوردين المصريين من العملة الأجنبية، تأجيلا للمشكلة مع تضخيمها بصورة تزيد من الأغلال التي نكبل بها أبناءنا وأحفادنا ممن سيتعين عليهم رد تلك القروض، تطل على المصريين في الوقت الحاضر أعراض المرض الهولندي بصورة تدعو للقلق من حال الاقتصاد المصري في الفترة القادمة.

وتشير الأرقام المعلنة إلى أن القوة "الخارقة" للعملة المصرية، المدعومة باكتشافات الغاز "الضخمة"، والقروض "المتنامية"، وتحسن السياحة "المحدود"، تسببت في انخفاض تنافسية المنتجات والخدمات المصرية، بعد أن وصل سعر الدولار مقابل الجنيه إلى أدنى مستوياته منذ اتخاذ قرار التعويم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، رغم استمرار العجز في ميزان المدفوعات وارتفاع الديون الخارجية بنسبة تتجاوز 60% مقارنةً بمستوياتها عند اتخاذ القرار قبل ثلاث سنوات.

وقبل يومين، أصدر مركز الأبحاث الشهير كابيتال إيكونوميكس ورقة بحثية، أشار فيها إلى أن قوة الجنيه المصري لن تستمر، مؤكداً أن توجه البنك المركزي المصري الحالي "الصحيح" نحو تخفيض معدلات الفائدة على الجنيه خلال الفترة القادمة سيقلل من دعم العملة المصرية، الأمر الذي يزيد من احتمالات تراجع الجنيه أمام الدولار خلال العام الحالي.

وأكد مركز الأبحاث أن الجنيه في الوقت الحالي أصبح مقوما بأكثر من قيمته الحقيقية، بعد أن ارتفع "سعر الصرف الفعلي الحقيقي للعملة"، الذي يأخذ تغيرات معدلات التضخم في الاعتبار، بأكثر من 60% من أدنى مستوى وصل إليه عقب التعويم، الأمر الذي يضعف من تنافسية الصادرات المصرية غير النفطية، والتي لم تشهد نموا، وفقاً للمركز، منذ منتصف 2018. وأوضح المركز أن هذه الظاهرة، أي تراجع الصادرات غير النفطية، تعد عَرَضاً معروفاً للمرض الهولندي، الأمر الذي يكون نتيجته أن أي زيادة في اكتشافات النفط خلال الفترة القادمة لن تكون كافية لتحسن وضع ميزان المدفوعات المصري.

تحليل المركز المحايد لقوة العملة المصرية والعوامل المؤثرة فيها، لم يأخذ في الاعتبار حجم الفساد في الاقتصاد المصري، ولا حجم الإنفاق الداخلي والخارجي الذي يلجأ إليه النظام المصري لتنفيذ أجندته السياسية، ولا التغيرات العالمية والإقليمية التي ربما تحد من توفر القروض الأجنبية ومستثمري أذون الخزانة المصرية، ومع ذلك توقع وصول سعر الدولار مقابل الجنيه إلى 17 بحلول نهاية العام الحالي، ثم 18 بنهاية العام القادم 2021. فهل يدرك ذلك محافظ البنك المركزي المصري؟!