الجنرال سائق التاكسي

الجنرال سائق التاكسي

10 مايو 2018
+ الخط -
أوصلني صباحاً سائق تاكسي لديه من العمر ستون عاماً، اتسعت رقعة الحديث مع كل مشاهدة نصادفها أمامنا، حدثني عن مجهود شرطة المرور المرابطين في سائلة صنعاء القديمة منذ أول الحرب، ورغم أي فوضى متحدين قسوة الوضع الاقتصادي ومتمسكين بشبكة توزيعهم لتخفيف الازدحام وتكدس السيارات في المناطق المختنقة، شعرنا بأننا في دولة نحلم بها ونبحث عنها.

أشدنا بجهودهم فهم مقاومون حقيقيون وتساءلت في قرارة نفسي: في هذا العمر وما زال يحلم بالدولة، فأي يأس وقنوط هذا الذي يتملكنا بين حين وآخر؟

قال: "يا بنتي، أربعون عاماً في خدمة الدولة وفي الأخير قطعوا راتبي.. كان أبي يحذرني من الكهنوت الإمامي وما صدقنا، والآن أوصي أولادي وذريتي وذرية ذريتي بلعنهم إلى ما لا نهاية"، لم أجد طريقة لمواساته في وضع نحتاج فيه جميعنا إلى مواساة!


"لو دامت لغيرهم لما وصلت لأيديهم.. الجمهورية جاءت ولعنتهم خمسين عاماً وستأتي جمهورية تكفي للعنهم إلى الأبد".. ابتسم وخفت حدة الملامح التي كانت ترتسم على محياه، فكرت أي وجه سأختاره له ولا أظنها إلا لفردٍ من أفراد الجيش.. ما زلت أحب كلمة "جيش" كلمحة خاطفة للأمان، ما زلت أحترمهم وتبهرني فكرة وجودهم رغم ما وصلنا إليه من تلاشٍ لكل مقومات الدولة.

يتحدث وأنا في المقعد الخلفي، لكنني كنت بعيدة جداً، شاردة! حتى صُدمت سيارته من الخلف، لم يخف.. كان قوي العزم، فحدثت نفسي لماذا لم يخف! سواعد قوية، ابتسامة طيبة، ملامح قاسية، نبرة وقورة، غضب مسيطر عليه، رددت سراً "السلك العسكري".

استمررت في النظر إلى السماء وتخيلته بحلة عسكرية، كان جميلاً مهيباً على صدره أوسمة البطولة، ربما يخيب ظني لكني أحببت خيالي الذي أحيك به مناصب وزياً يتلاءم مع الوجوه أمامي، صحيح أعترف هذه المرة خيال واسع، يكفي أن يليق به!

لدى سائقي التاكسي حكايات وبعضهم أبطال مجهولون في هذه الحياة.. تمضي أعمارهم ولا أحد يتذكرهم حتى أولئك الذين أوصلوهم إلى وجهتهم وخلال الطريق سردوا لهم تفاصيل حياتهم.

نالهم الوجع، والبعض لم يفقد الحيلة، فقد بات التاكسي أقرب الوسائل لكسب الرزق بعد أن فقد البعض راتبه والبعض الآخر وظيفته كسائق التاكسي الذي كان شريكا في إحدى الشركات التي أفلست، كان محافظاً على هندامه حتى آخر لحظة.

نظارته، جاكيت أسود اللون، ساعة فضية تقليد لماركة رادو، خاتم فضي يفتقد إلى حجر كريم ليبدو أكثر جمالاً.

الحياة تستمر ولا تكترث لمن يريدون إيقافها، تُحبنا وتوفر لنا سُبل وأدوات الاستمرارية حتى لو كانت بدائية لكننا نبخل على أنفسنا تعددها واختلافها مخافة موت الروح وأجسادنا على قيد الحياة.. نحن لا نعود إلى الوراء، تؤهلنا الحياة لتغيير أكبر.

دلالات

7B875018-CC3F-46B9-A3DE-684F93E0A72B
صفاء الهبل

روائية وكاتبة يمنية، رئيسة مبادرة (كن إيجابيا) للأعمال الخيرية. صدر لها رواية (قدري فراشة).تعرف عن نفسها: مجرد باحثةٍ عن غيمة لتمرغ فيها مرارة الواقع.مصابة بالمسّ. كلما أمطرت رفعت طرف حرفي ورقصت حتى الإنهاك والتعب.

مدونات أخرى