الجندر والتحليل النفسي: أدوارٌ كيف جرى توزيعها؟

الجندر والتحليل النفسي: أدوارٌ كيف جرى توزيعها؟

29 سبتمبر 2019
مقطع من عمل لـمشاعل فيصل/ الكويت
+ الخط -

منذ بداياته، وضّح التحليل النفسي أن الانتماء إلى جنس (رجل أو امرأة) ليس مسألةً عضوية أو بيولوجية فحسب، وكان ذلك إيذاناً بدفع البحث إلى آفاق رمزية واجتماعية واسعة. ذلك ما نلاحظه ونحن نتصفّح مواد العدد الأخير من المجلّة الشهرية الفرنسية "صحيفة الأخصائيّين النفسانيّين" (العدد 370، أيلول/ سبتمبر 2019)، والذي اقترح ملفاً رئيسياً بعنوان "نساء، رجال، اليوم: إسهام التحليل النفسي".

جاء الملف في ست مقالات وقد قدّمه الباحث والمحلل النفسي نوربار بون، الذي يشير إلى تغيّرات عدّة عرفتها المجتمعات الحديثة أدّت إلى تحوّلات في تصوّر الرجل والمرأة والعلاقة بينهما. كان من الطبيعي أن تركّز المقالات، مثل أكثر مدوّنة علم النفس، على المجتمعات الغربية، لكننا نقع على مقال بينها يتناول المجتمعات العربية، ويضيء بالخصوص نموذجَي المغرب وتونس؛ حيث تلتفت المحلّلة النفسية سعاد حمداني إلى مسألة المرأة والنسوية في العالم العربي من منظور مقارن.

تعتبر حمداني أن المرأة والرجل يختبران وضع الأنثى والذكر قبل الدخول إلى ما هو "شمولي"، وتبيّن مثلاً أن قدرة جسد المرأة على الإغراء وعلى الإنجاب هي التي قدّرت عليها خضوعها للنظام الذكوري، كما تشير إلى أنَّ العلاقة بين الرجل والمرأة ووضعية المرأة في حد ذاتها مسائل معقّدة جداً ولها ارتباطها بالخيارات السياسية والمجتمعية، مشيرة إلى تطوّرات عرفتها تونس مثل تزامن إرساء النظام الجمهوري (1957) مع الإعلان عن "مجلّة الأحوال الشخصية" (إطار قانوني يعترف بحقوق المرأة).

ويرى جان بيار لوبرن، وهو طبيب ومحلل نفسي، أن البحث الدائم عن المساواة بين الرجل والمرأة، رغم أنه هدف مشروع، لا يجب أن يلهينا عن شيء آخر وهو الاشتراك في النقص الذي يعاني منه كل من الرجل والمرأة من حيث وضعهما الوجودي، والذي لا يميز بين هذا وذاك. يعتقد لوبرن أنه، وعلى الرغم من أنه لا يمكن أن نختار عضونا الجنسي، فإنه يمكن أن نختار البُعد الجنسي الذي يربطنا بكياننا.

من جهتها، تتناول جيزال شابوديز التحولات التاريخية والسياسية التي عاشتها المجتمعات الغربية وأثّرت على الحياة الجنسية عند الأفراد، ومن ثمّ على وضع المرأة والرجل. تشير الباحثة إلى تغيّر خارطة الحياة الجنسية في المجتمعات الحديثة، وهو ما أعاد توزيع الأدوار فيها؛ حيث أن الرجل تخلّى جزئياً عن الوظيفة القضيبية (التي تميّز المجتمعات الأبوية)، ما سمح بولادة الذات داخل خطاب يلتقي فيه المذكر بالمؤنث من حيث أنهما متحالفان، ليس كهويتين مختلفتين بل أيضاً كهوية مشتملة على جزء منفصل عنها.

وتنظر مونيك بون في هذه التحوّلات من منظور الهيستريا التي كانت تُصاب بها نساء القرن التاسع عشر في أوروبا بشكل متواتر، ثم تلاشت تدريجياً من معجم الأمراض النفسية في أيامنا هذه لتعوّضها أعراض أخرى، وتُرجع ذلك إلى تحرّر المرأة من قيود المجتمع الأبوي لتصبح مستقلة مادياً ومتحكّمة في الإنجاب ومخصّصة طاقتها للنجاح المهني والاجتماعي.

وينتهي الملف بمقال لـ جان ماري فورجيت، ويتناول فيه مسألة الهوية الجنسية عند الأطفال والمراهقين في أيامنا. ويبيّن أن الأطفال والمراهقين يبحثون في محيطهم عمّا يساعدهم على بناء هويتهم اللغوية، وهي الشرط الأساسي لبناء هوية جنسية، مشيراً إلى أن عملية البحث هذه تعتمد على علامات صلبة ترمي جذورها في الأجيال السابقة.

تتّفق هذه المقالات حول تغيّر القيم والمعايير في المجتمع بدرجات متفاوتة، إذ فقد الأب المكانة المركزية والرمزية التي كانت تميّزه، معلنة عن تحوّل المقاييس الممثلة للسلطة، ما يفترضه ذلك من توزيع جديد للأدوار وتحديد الموانع وما هو مسموح به، وبالتالي من الطبيعي أن يحدث تغيّر في فهم الهوية الجنسية والعلاقات بين الجنسين.

لعلّنا نلاحظ أيضاً مركزية البحث في اللغة لفهم تحوّلات الواقع الاجتماعي، على خلفية أن كل شخص ينمو داخل خطاب وبه، ولأن اللغة هي الفضاء الوحيد الذي نحدد فيه هويتنا. ولكنها كلما كانت متكونة من مخاطِب يوجّه الخطابَ ويهيكله حسب إرادته فإنه يمثل بذلك الجانب الذكوري، وبما أن كل خطاب يتلقاه مخاطَب، فتلك الوضعية ترمز إلى الجانب الأنثوي. واللغة تبديل مواقع وتبادل وظائف، وهي بذلك تمنحنا مند طفولتنا تجربة الباعث والمتلقّي، الذكر والأنثى، بقطع النظر عن انتمائنا البيولوجي، وتاريخ الأفراد النفسي يُقاس بمدى توصّلهم إلى تحديد من هم وكيف هم داخل اللغة وباللغة. إذن أن تكون رجلاً أو امرأة ليس معطى بيولوجياً فقط، رغم أن ذلك المعطى هو قدرنا إذ ليس لنا خيار فيه.

هناك أيضاً أهمية خاصة تولى للطفولة، ويعود ذلك إلى أن المرء لا يولد رجلاً أو امرأة بل يصبح كذلك. ويبقى دور الأسرة وعلاقة الوالدين بالأبناء وحضورهم وكيفية تربيتهم وأسلوبها والأحداث التي يعيشونها أثناء طفولتهم محدّدة لهذا المستقبل ولهذه الهوية، ولكن الأمر ليس بتلك البساطة. إن كثيراً مما يحدث في تلك الفترة الحساسة من حياتنا يختفي للأبد في طيات لاوعينا، خصوصاً إذا كان حاملاً لصدمات غير مقبولة ونحن لا نجد كلاماً لقول تلك الصدمات وتجاوزها ونبقى نحمل أوزارها في أجسادنا وأحلامنا ونجر تبعاتها طوال حياتنا، ولا شك أن ذلك ينسحب على فهمنا لهويتنا الجنسية.

المساهمون