الجزائر ومسوّدة الدستور: هل هي مسوّدة حقّاً؟

الجزائر ومسوّدة الدستور: هل هي مسوّدة حقّاً؟

11 مايو 2020

علم الجزائر في العاصمة (24/1/2019/Getty)

+ الخط -
اختارت الرّئاسة في الجزائر ظروف الحجْر الصحي الجزئي، بسبب جائحة كورونا، لتوزيع مسوّدة الدّستور على شخصيات وطنية، وأكاديميين، وأحزاب، ومنظمات طلابية، قصد إثرائها بالمقاربات التي تحدّثت عنها، أي القبول، التّعديل الجزئي أو الكامل، بل وأيضا اقتراح التّجاوز التام لبعض المواد.
عدة إشكاليات تطرح نفسها بشأن مسلكية السّلطة في طرح المسوّدة، هل اتبعت الشّروط الكفيلة بأن تكون المسوّدة مجرّد اقتراحات قابلة للنّقاش، أم أنّها مسوّدة في شكل مشروع سيمرّ، حتما، إذ إنّ أولى شروط عرض ذلك العمل تتضمّن رفض بعضهم تشكيلة فريق الخبراء الذي تولّى اقتراح المسوّدة، وخصوصا رئيسها الذي كان قد تولى رئاسة فريق كلف بمهمّة مثيلة في تعديل قام به الرّئيس السّابق عبد العزيز بوتفليقة في العام 2016. وبتتبّع الإشكالات الشّكلية، ينصرف السّؤال إلى الإغلاق الذي تشهده وسائل الإعلام على الرّأي الآخر، وخصوصا الرّأي الرّافض انتخابات الرّئاسة (12 ديسمبر/ كانون الأوّل 2019)، لأنّ بعضهم بدأ، على منصّات التّواصل الاجتماعي، يطرح السّؤال، في حين أنّ آخرين سألوا وأجابوا، ومنحوا أنفسهم حقّ رفض مشاركة الراّفضين الرئاسيات الأخيرة، على الرّغم من أنّ القانون يمنحهم حق مقاطعة الانتخابات لكنّه، في الوقت نفسه، يمنحهم الحق الكامل، بصفتهم جزائريين، في المشاركة في مناقشة المسوّدة، لأنّ الرئاسيات الأخيرة أفضت إلى واقع قانوني ودستوري منفصل عن الفعل القانوني الآخر الذي تنصّ عليه المسوّدة، وهي المواطنة والمساواة، من ناحية، وحرية التّعبير، من ناحية أخرى.
بالنّسبة للإعلام، المسألة منطقية بفعل انعدام إمكانية اللّقاءات العامّة بفعل الظّرف الصحي، وهو ما يطرح درجة استعداد السّلطة لفتح قنوات التّعبير أمام الجميع، للإدلاء بالرّأي ومقارعة الحجّة بالحجّة، خصوصا أنّ المسوّدة طرحت، وفق آراء المختصين، في قراءاتٍ أوّلية، تغييراتٍ عميقةً على شكل النّظام السّياسي المقبل ومضمونه، وإن في روح ما كانت تعرفه الجزائر، 
دوما، أي الحفاظ، أساسا، على النّظام شبه الرّئاسي.
ترتبط المسألتان، المواطنة والمشاركة الإعلامية الحرّة في مناقشة مضمون المسوّدة الدستورية، لانّ المسودة تبقى كذلك إلى غاية إفراغ الجهد في مناقشتها، مع تمكين أصحاب ذلك الجهد من استخدام حقّهم الدّستوري في التّعبير، وتسجيل مقترحاتهم، ليكون العمل في إطار مقولة "ما لا يُدرك كُلُّه لا يُترك جُلُّه"، بالإشارة إلى ظروف تشكيل لجنة الخبراء، ثمّ الظّروف التّي شهدتها الرئاسيات في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، من حيث عدم تمكين الرّأي الآخر من المنابر الإعلامية لرفع الصّوت بالاعتراضات الشّكلية والتأسيسية لرفض/ قبول الانتخابات، وتقرير المشاركة/ المقاطعة/ الامتناع عن التّصويت فيها.
قد يكون توقيت توزيع المسوّدة مرتبطا مع إقرار الحكومة إمكانية رفع الإغلاق التام للبلاد بعد أيّام (14 مايو/ أيار الحالي). ولكن، بسبب استمرار العمل بالإجراءات الاحترازية، لا يمكن عقد تجمّعات واجتماعات عامّة لمناقشة المسوّدة، ما يؤدّي، حتما، إلى الاعتراف بوجود وسيلتين للنّقاش، المنابر الإعلامية (الخاصة والعمومية، صحف، إذاعات وقنوات تلفزيونية، إلى جانب مواقع افتراضية) للسياسيين، الخبراء والأكاديميين ومنصّات افتراضية، تقترحها الحكومة (وزارة الدّاخلية، وزارة الاتّصال، المجلس الدستوري، وغيرها)، لتكون المناقشة عامّة ومفتوحة لأكبر عدد ممكن من المواطنين، على أن يتمّ تصعيد تلك التّعديلات، المقترحات أو النّصوص المقترحة، إلى اللّجنة نفسها، لمقارنتها مع مضمون المسوّدة، ثمّ اقتراح مشروع نهائي للاستفتاء على الشّعب، وهو ما يمكن أن يذهب بالعملية، إذا احتُرمت هذه المقاربات، إلى فترة قد تطول إلى ما بين ستة شهور إلى تسعة شهور على الأكثر، قبل أن تصبح المسوّدة دستورا جديدا للجزائر.
يستلزم ذلك العمل النقاشي الحتمي، حتى يكون منتجا للمخارج التي تُسهم في تحويل المسوّدة 
إلى مشروع قابل للاستفتاء الشّعبي عليه، شروطا تؤطّر النّقاش وتنظّمه، بحيث يكون بعيدا عن حوار الطّرشان، السبّ والشّتم أو المهاترات الشّخصية، حزبية ضيقة ومواقف أيديولوجية أكل عليها الدّهر وشرب، ليركّز، فقط، على تلك المسوّدة: شكلها، مضمونها ثمّ المقترحات، بل يمكن اشتراط أن تتمّ العمليّة بما هو ملموس وواقعي، أي أن تُتبع الّنقاشات بمحاضر تُسجّل فيها الاعتراضات على النّص المقترح والبديل، ليسمح ذلك للخبراء من إعداد تقرير عن كمّ التّعديلات، شكلها ومضمونها، قبل إعداد نصّ المشروع الأخير للاستفتاء.
ربّما تكون الشّروط المقترحة لتنظيم النقاش، بشأن تلك المسوّدة، كفيلةً بإنتاج حراك قانوني/ سياسي، يكون في مستوى الحراك السّلمي الذي عرفته البلاد منذ 22 فبراير/ شباط من العام الماضي، والذي أنتح، بالرّغم من كل النّقائص، تغييرا نتمنّى أن تكون خاتمته مصالحة بين الجزائريين. ولعلّ النّقاش المقبل بشأن مسوّدة الدستور يكون، في ظلّ الظروف الاستثنائية الحالية، حجر صحي جزئي قد تُرفع قيودُه تدريجيا وأجواء رُوحانية رمضانية ثمّ أيام عيد مباركة، لعله يكون مُثمرا إذا تم بين جزائريين تتحد أعينهم على متغير واحد، هو مصلحة وطنهم، وهو متوفّر من جراّء ثمار الحراك السّلمي الذي ولّد قوة جباّرة ووعي سياسي لدى كل فئات المجتمع، زادته زخما هبّة التضامن للتعامل مع جائحة كورونا.
لا يمكن تصوّر نقاش بدون كل تلك الشّروط التّمهيدية، وهي ممكنة التّحقيق والتّجسيد إذا توفّرت إرادة أن لا تكون المسوّدة مجرّد نصّ يُعرض ثم يكون مآله التّعديلات السّابقة التي تُمرّر إرادة نظام، وليس إرادة شعب، في إقرار قانون أعلى، يتساوى أمامه الجميع، ويكون الاحتكام إليه في الخلافات السياسية والاعتراضات القانونية مع ضمان إمكانية التّقاضي، حرية التعبير، حرية النشاط السياسي وظروف وصول الممثلين الأكفاء بالانتخابات الحرّة، النّظيفة والنّزيهة، إلى ممارسة المسؤوليات داخل المؤسّسات التّمثيلية، من دون إغفال روح الدّستور من خلال فقرات تمنح الشعب مفاتيح مراقبة عمل الحكومة وكيفية صرف المال العامّ.
إذا توفّرت هذه الظروف، يمكن القول إنّ المسوّدة اقتراح للإثراء وخطوة في سبيل إقرار جو سياسي في قطيعة تامة مع الممارسات التي تحرّك الجزائريون في 22 فبراير/ شباط 2019 لرفضها، كما سيتمكّن الشّعب من أدوات قانونية وسياسية لن تسمح بتكرار ظروف الاحتكار 
للسّلطة أو احتمال، مجرّد احتمال، أن تعود الممارسات السياسية والاقتصادية نفسها التي ضيّعت على الجزائر أموالا ضخمة، كان يمكن أن تشكّل عماد نهضة لجزائر جديدة حقيقة لا مجازا.
هي، في النتيجة، الشروط نفسها التي كان بعضهم قد اقترحها لاعتماد رئاسيات شفافة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ولكن، بسبب ظروف الاحتقان والخوف على استقرار البلاد، لم تتوفر. وبما أن الفعل السياسي ليس عاطفيا ولا جامدا، فإن مسودة الدستور المقترحة فرصة جديدة لرهان أكبر ستتوفر، بسببهما، أجواء الجزائر تجسيد مطالب الحراك الذي تمّ، وفق قراءات أولى للمسودة، دسترته في ديباجة النص المقترح، بمعنى أنه أضحى واقعا يسجل القطيعة مع ماضٍ لا يريد أحد أن يعود، ومستقبل يتمنى الجميع أن يدركه بالإمكانات المتوفرة، وبالتحدّيات التي يجب أن تُرفع، خصوصا في ظروف جد حسّاسة، لعلّ أبرز ما يُميّزها إمكانية التخلُي عن الرّيع النّفطي، وإقرار مقاربة اقتصادية استراتيجية حقيقية، تملك الجزائر كلّ المؤهّلات لرسم معالمها، ثمّ، بسواعد أبنائها، تسعى إلى تنفيذها لتصل بالبلاد إلى المكانة التي تليق بها، أي في مصافّ القوى الإقليميّة.
أبانت الهبّة التّضامنية للجزائريين للتصدّي لجائحة كورونا عن كفاءات وقُدُرات، كما أبانت عن إمكانات غير مُستغلّة خير الاستغلال، قد تسمح ظروف مناقشة مسوّدة الدّستور المقترح، إذا تمّت في الأجواء التي نراها، بميلاد الجزائر التي يتمناها الجزائريون كلُّهم باختلافاتهم وأفكارهم، في إطار جبهة واحدة وموحّدة، تنظر إلى أفق واحد ومستقبل مشترك.