الجزائر: هل يحوّل تبون "الجمعيات" إلى حاضنته السياسية؟

الجزائر: هل يحوّل تبون "الجمعيات" إلى حاضنته السياسية؟

03 اغسطس 2020
لعب المجتمع المدني دوراً هاماً في التظاهرات (رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -

منذ اعتلائه سدة الحكم، أظهر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون انحيازاً لافتاً إلى المجتمع المدني على حساب الطبقة السياسية، وطرح ذلك مؤشرات سياسية على رغبة واضحة في بناء جبهة مدنية حاضنة لمشروعه السياسي وتشكّل جدار دعم لخياراته السياسية والاقتصادية، في سياق إعادة تجربة "تنسيقيات المساندة" التي شكّلها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، من الجمعيات المحلية لدعم حكمه، لكن مثل هذا الخيار يجدد مخاوف جدية من احتواء السلطة لقوى وفعاليات المجتمع المدني، وتحييدها عن دورها التفاعلي والرقابي واستخدامها في مشروع سياسي وخلق شبكة من جمعيات الريع المالي.
وقال مستشار الرئيس الجزائري المكلف بالمجتمع المدني والجالية في الخارج نزيه برمضان إن هناك توجهاً نحو عقد مؤتمرات في كل الولايات، لضم كل الجمعيات النشطة ضمن فدراليات ولائية. وذكر خلال لقاء مع قوى المجتمع المدني في ولاية وهران غربي الجزائر أنه سيلي ذلك عقد مؤتمر وطني، بعد انقضاء الأزمة الوبائية، وتأسيس كونفدرالية وطنية للجمعيات، تسمح "للمجتمع المدني بالمساهمة في اتخاذ القرار". لكن اجتماع مستشار الرئيس بالقوى المدنية حمل أيضاً إشارات سياسية واضحة عن رغبة السلطة في جذب المجتمع الوطني لصالحها، إذ اقتصر الاستدعاء على المنظمات الموالية للسلطة، والتي تعود في خلفيتها إلى أحزاب السلطة، فيما استبعدت من اللقاء المنظمات والجمعيات الأكثر فعالية والمحسوبة على أطياف سياسية معارضة أو مستقلة في مواقفها السياسية.
في آخر حوار تلفزيوني، أعلن تبون عدم رغبته بخوض تجربة إنشاء حزب سياسي خاص به، على غرار تجربة الرئيس الأسبق ليامين زروال (1994-1999) والذي أسس بداية عام 1997 حزب "التجمع الوطني الديمقراطي"، أو رئاسة حزب والاستناد إلى تحالف أحزاب في صورة رئاسة بوتفليقة لحزب "جبهة التحرير الوطني"، واستفادته من تحالف مع "التجمع الديمقراطي" وحركة "مجتمع السلم" (إخوان الجزائر)، بل إن تبون اضطر قبل ذلك لإصدار بيان رئاسي يعلن من خلاله عدم وجود أي علاقة تنظيمية له مع حزب بوتفليقة سابقاً (جبهة التحرير الوطني) والذي كان عضواً في لجنته المركزية، وأعلن استقالته من ذلك قبل فترة. لكن تبون لم يُخفِ في المقابل أنه ترشح باسم المجتمع المدني وسعيه لأن يستعيد الأخير تحكّمه في حركية المجتمع، وشجع على إنشاء عدد كبير من الجمعيات المدنية، ووضع تبون هذا المسعى ضمن خطة إعادة إدماج الشباب في العمل السياسي، ولأجل تحضير هؤلاء إلى تحمّل مسؤولياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتكريس دور الحركة الجمعوية في الديمقراطية التشاركية وبناء الجزائر الجديدة من خلال إعطاء تسهيلات، لا سيما منح تراخيص التي كانت تعيق نشاط الجمعيات. وإزاء هذا اتخذت وزارة الداخلية الجزائرية في يونيو/حزيران الماضي قراراً قضى بتعديل فترة معالجة ملف اعتماد الجمعيات إلى عشرة أيام، وكشفت آخر الإحصاءات الرسمية أن هذه التسهيلات سمحت بسرعة في منح الاعتماد لأكثر من 2600 جمعية خلال شهر واحد في كامل الجزائر من مجموع أربعة آلاف ملف أودع لدى السلطات، ويجري اعتماد باقي الجمعيات الناشئة.

أعلن تبون عدم رغبته بخوض تجربة إنشاء حزب سياسي خاص به
 


وقال مسؤول العلاقات الخارجية في منظمة "لقاء شباب الجزائر" عبد السلام باشاغا لـ"العربي الجديد"، إنه يثمّن "رفع القيود السابقة والبيروقراطية في إنشاء الجمعيات وتأطير المجتمع من خلالها، وهذه عملية ضرورية من أجل بناء وسائط مجتمعية متينة، إلا أننا نجد أنفسنا أمام محاذير لا يجب الوقوع فيها، أبرزها أن تكون هذه الجمعيات أو أغلبها مجرد لجان للمساندة والتطبيل للسلطة أياً كانت، ما سيخلق مجدداً طبقة من الوصوليين والانتهازيين باسم المجتمع المدني تقتات من التزلف وبيع المواقف، وهذا يعيدنا إلى المربع الأول من الممارسات البائسة سابقاً"، معرباً عن خشيته من أن "يتم تحويل هذه الترسانة الفتية من فعاليات المجتمع المدني إلى حزب كبير تمارس من خلاله السلطة الحكم كواجهة شعبية تحل محل الأحزاب، لتحيد بذلك عن دورها الرئيسي المجتمعي، فنخسر بذلك الأحزاب والجمعيات معاً". وأضاف "التخوف الثاني أن يتحوّل هذا الكم الكبير من الجمعيات المعتمدة إلى محض أرقام تختفي فيها وتذوب الكفاءة، وتتساوى فيه التنظيمات القوية والموجودة حقيقة في الميدان مع أخرى لا توجد إلا على الورق وفي محفظات رؤسائها"، معتبراً أنه "من الجيد أن يتهيكل المجتمع في منظمات ويكون له الدور الفعال في تنمية الحس المجتمعي لدى المواطنين والشباب إزاء مختلف القضايا المحلية أو الوطنية وحتى الدولية، لكن ذلك لا يعني تحويل الجمعيات إلى لجان مساندة تُبتز بالتمويل والامتيازات، وتشكيل ما يشبه اللجان الشعبية يتم من خلالها تغيير قواعد اللعبة الديمقراطية، فننتقل من ديمقراطية الواجهة التي كنا فيها إلى ديمقراطية اللجان الشعبية".

ومع تحرك السلطة باتجاه تجميع قوى المجتمع المدني، بدأت المخاوف السياسية في البروز أكثر من هذا التوجه، فبخلاف ما دعا إليه تبون في حملته الانتخابية لرئاسيات ديسمبر/كانون الأول 2019، كان تبون قد دعا إلى ما وصفه بـ"تشييد مجتمع حر وناشط، كفيل بتحمّل مسؤولياته على غرار السلطة المضادة وأداة الدعوى العمومية في خدمة المواطن والام"، لكن الكثير من القوى السياسية والمدنية بدأت تلفت النظر إلى أن مشروع تجميع قوى المجتمع المدني في تكتلات محلية ومركزية، يستهدف استغلالها في دعم ودفع خيارات السلطة وتبون، وتقييد حركتها داخل مربع هذه الخيارات، ومن جهة ثالثة سحب التمثيلية من الأحزاب السياسية، ودفع القوى المدنية إلى منافستها في الاستحقاقات الانتخابية المحلية والنيابية عبر قوائم مستقلة، ما سيحدث تداخلاً كبيراً بين العمل المدني والعمل السياسي.
يعتقد مراقبون لتطور الملف في الجزائر أن ما يطرحه تبون من أفكار حول أدوار سياسية للمجتمع المدني غير واضح إلى حد الآن. وقال أستاذ القانون الدستوري سعيد يحياوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، "يبدو أن الرئيس بصدد البحث عن حاضنة سياسية نظيفة، يتجنّب من خلالها تحمل العبء السابق لأحزاب السلطة، كما أن فكرة تأسيس حزب سياسي تبدو مسيئة أكثر للصورة التي يريد الرئيس وفريق الحكم رسمها حول الجزائر الجديدة، في ظل وجود حراك مترقب ومتابع ومنتقد لكل خطوة من الرئيس، بل ويربط كل ممارسة أو موقف بالمواقف السابقة لعصابة الحكم السابقة، للدلالة على استمرارية نظام الحكم في نفس الممارسات". وأضاف أن هذه العوامل تكون دفعت الرئيس إلى "البحث عن دعم مهيكل من خارج إطار الأحزاب، ولذلك لجأ الرئيس إلى إبراز فكرة المجتمع المدني التمثيلي، بزعم ترشيحه هو شخصيا من قبل المجتمع المدني، مع أن هذا محل خلاف، وزاد من دعم هذا التوجه تشكيلة المستشارين المحيطة بالرئيس (أغلبهم كانوا نشطاء في المجتمع المدني)".
وتحدث يحياوي عن محاذير التداخل الذي سيحدث في حال كان الرئيس يراهن على تحويل شبكات المجتمع المدني إلى حاضنة سياسية، لافتاً إلى أن ذلك سيمثل إعداما للعمل الحزبي. وقال "أعتقد أن محيط الرئيس يتجه إلى تجميع جمعيات ومنظمات المجتمع المدني محلياً ومركزياً والتحضير السريع للانتخابات التشريعية لمواجهة الأحزاب التقليدية التي يرفض إلى حد الآن حسب الظاهر العمل معها"، مضيفا "فكرة تأسيس المجتمع المدني تناقض طبيعة هذا المجتمع أصلا، المبني على التطوع والتخصص، والابتعاد عن السياسة، كما أن فكرة تسييس المجتمع المدني لم تحدث حتى في البلدان الأكثر تقدماً، والتي يحوز فيها هذا الأخير سلطة اجتماعية قوية ومنافسة السلطة السياسية. ومع ذلك بقي الحزب السياسي هو الإطار القانوني للممارسة والمنافسة والتمثيل السياسي، لأن طرح فكرة المجتمع المدني التمثيلي قد تساهم في إعدام العمل الحزبي الضعيف أصلا في الجزائر وازدرائه، ويقتل فكرة النضال الحزبي والتكوين السياسي للشباب من خلالها، وهو ما يخالف وعود الرئيس حول الانفتاح وبسط الحقوق والحريات وحمايتها، وسيخلق هذا الأمر مجتمعا مدنيا انتهازيا نفعيا على حساب الإطار التقليدي لممارسة السياسة والوصول إلى المناصب العامة لخدمة الناخبين".

يرى مراقبون أن الرئيس بصدد البحث عن حاضنة سياسية نظيفة، يتجنّب من خلالها تحمل العبء السابق لأحزاب السلطة
 


تُظهر تصريحات المسؤولين في الجزائر في الفترة الأخيرة امتناناً كبيراً للمجتمع المدني والمجموعات النشطة، لمساهمتها الكبيرة في مساعدة الحكومة على مواجهة الأزمة الوبائية والتوعية وجمع التبرعات لشراء المعدات الطبية لصالح المستشفيات ومساعدة العائلات المعوزة، وقد يكون ذلك أحد العوامل التي دفعت السلطة إلى التفكير في هيكلة جديدة للمجتمع المدني. لكن بعض المحللين يربطون أيضاً مرور السلطة إلى السرعة القصوى في إعادة هيكلة المجتمع المدني، بإخفاق السلطة في إعادة هيكلة أبرز حزبيها، "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي"، وانتخاب قيادات جديدة لا تتمتع بالقدر الذي يسمح باستعادة المصداقية السياسية ومنافسة طروحات قوى المعارضة. ورأى الباحث والمحلل السياسي سعودي أنيس، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن السلطة اضطرت للتوجّه إلى هذا الخيار بعد "فشل محاولة ترميم المؤسسة الحزبية الداعمة للسلطة أخيراً، عبر تجديد قيادات حزبي السلطة جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي، والتي أفرزت سخطاً شعبياً ظهر في الشارع وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وعزز مخاوف من أن يكون مشروع الجزائر الجديدة للرئيس تبون استمراراً لنفس سياسات السلطة أو ولاية رئاسية خامسة من دون شخص بوتفليقة". وأضاف أن "هناك محاولة واضحة في الاعتماد على نظرية صناعة مجتمع مدني على المقاس في إطار عملية ترميم نظام الحكم الذي تضررت بنيته جراء الحراك الشعبي السلمي، وتبقى الإشكالية الكبرى بالنسبة للسلطة ككل هي الأموال، ونحن نعلم أن المال كان ومنذ البداية السلاح الذي يستعمله النظام لمعالجة أزمة الشرعية، والآن البلد يعيش أزمة مالية والنظام ليس في وضع يسمح له بتوزيع الريع المالي على الجمعيات".

المساهمون