قبل التعديلات المخيبة التي تعيد إنتاج النظام الرئاسي نفسه، وترفض تقييده، وترسم مسافة بعيدة عن مطالب ثورة فبراير، يتوجب العودة إلى أصل المشكلة التي تتعلّق بآلية صياغة التعديلات الدستورية، لأنه كان واضحاً منذ اللحظة الأولى، وقياساً بأكثر من تجربة تعديل سابقة على مرّ المحطات السياسية للجزائر، أنّ إعداد الدساتير بلجان تقنية مغلقة لن يؤدي إلا إلى نصّ دستوري مغلق وجاف. ولبناء الجزائر الجديدة، كان يفترض اعتماد آلية جديدة أيضاً، كانتخاب لجنة تأسيسية أو التوافق على تعيين لجنة تمثيلية، تقطع مع العجلة والتصنع السياسي وتحسم المتاهات، بعد أن تأخذ زمنها الكافي، وتتيح مشاركة متوازنة للأطياف المجتمعية في صياغة الأرضية الدستورية التي سيتعايش على أساسها الجزائريون، وتصون الثوابت المجتمعية وميراث ثورة نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، وتحدد قواعد الممارسة الديمقراطية.
في كل مرحلة من مراحل الجزائر المستقلة، كان النظام السياسي يقود البلاد إلى محطات انسداد ويتسبب بسياساته المتناقضة في دفع البلد إلى أزمات مختلفة اقتصادية واجتماعية، لكنه كان يصرّ أيضاً على الانفراد بصناعة المخارج المتعجلة والحلول غير المدروسة التي لا تصمد طويلاً، ليضطر إلى ترقيع الحلول مجدداً، بحيث يمنع أي مساهمة أو مشاركة لباقي الأطياف السياسية والقوى المجتمعية في إنتاج المخارج والحلول وصياغة الخيارات. كذلك كان الشأن في ما يتعلق بالدساتير، بعد كل أزمة أو اختلال سياسي أو انتفاضة شعبية، إذ يلجأ النظام الحاكم، بغض النظر عن تعدد الفاعلين في النظام، إلى إعادة صياغة تعديلات دستورية بنية إجراء تغييرات هيكلية في بنية المؤسسات السياسية وتحرير القضاء والإعلام، وتوسيع هوامش الحريات، لكن لا المؤسسات تحررت من الهيمنة ولا القضاء استقل، ولا الإعلام تحرر، ولا البلد استقرّ على خيار.
مع كل ما أتاحته ثورة فبراير السلمية من نقاط توافق بين الجزائريين على المسألة الديمقراطية ومحددات التغيير وإنهاء هيمنة الأجهزة ومؤسسات الظلّ، وتحرير المؤسسات واستعادة الشرعية الشعبية واستبعاد الجيش عن الحقل السياسي، والحفاظ على الوحدة الوطنية وقيم ثورة نوفمبر، فإنّ السلطة القائمة، سواء قبل انتخابات ديسمبر/كانون الأول أو بعدها، عاجزة أو رافضة لفكرة جمع الجزائريين على طاولة نقاش واحدة لصنع المستقبل معاً، وتضييق بالقدر الممكن نقاط الخلاف والاختلاف، وهو ما يتيح للسلطة التفاوض مع المجموعات السياسية من منصة "أب العائلة الذي يوزع الغنيمة".
يحكم "منطق الغنيمة" سلوك النظام السياسي في الجزائر في تعامله مع البلد ومشكلاته، ويحتكم إلى كراسة من الحلول الرديئة التي لم تحافظ على قيم الجزائر الثورية، ولم تمكّن الجزائريين من بناء جزائر جديدة، وأضاعت على البلد كثيراً من الوقت والمقدرات. وطالما أنّ منطق "الغنيمة" هو الذي يحدد الخيارات ويرسم ملامح المستقبل الغامض، فإن التوافقات بين الجزائريين ستبقى مؤجلة، وتبقى الاستحقاقات الدستورية مجال احتراب في الماضي، أكثر منه تحفزاً لصناعة المستقبل.