الجحيم

الجحيم

29 يوليو 2018
+ الخط -
أغمض عينيك.. دع سريرك اليوم فقط ونم على الأرض في هذا الصيف الحار دون أن يعزل شيئاً بينك وبينها، أغمض عينيك جيداً وأنصت لأسوأ أفكارك، قد يتبادر لذهنك أحد يلاحقك لأجل دَين، أو أن تسقط في هاويةٍ لا قرار لها إثر خطأ اقترفته أو ظلم أحل بك يوما، ربما مرض، أو موت شخص عزيز عليك (لا قدر الله).. هل تشعر بتلك القشعريرة التي تسير داخل نخاعك؟!.. أنت الآن تشبهني.

استبعد كل ما تفكر به من عذابات، وأنصت جيدا، لن تحتاج للكثير من الهدوء لتسمع صوت أنين من جهة، وصفعاتٍ من جهة، شتائم وكفر، ضحك وصراخ وضحك وأنين، ثم ضحك وصوت سقوط جسد ما على الأرض المبللة، ثم ضحك يليه صوت صفعٍ وضرب وربما تستطيع عبر عينيك المتورمتين أن تلحظ ضعف التيار الكهربائي المار بالمصباح الباهت في الممر الخارجي لزنزانتك إثر صعقات الكهرباء التي يتلقاها أحد المعتقلين والذي كنت أنت البارحة مكانه بالضبط، هل تشعر بالبرد؟!.. أنت الآن تشبهني أكثر.


في آخر مرة مشيت بها كنت تنزل درجاتٍ لزجة لا تعرف متى انتهت، مطمش العينين مقيد اليدين متورم الجسد، منذ ذلك الوقت حتى الآن أنت تدفع دفعا بالأرجل، لا يسمح لك بممارسة حق المشي، منذ متى لا تعلم، خمس سنوات، ست، عشر! هل نسيت كيف تمشي أو حتى كيف تقف منتصباً؟!.. أنت الآن تشبهني أكثر.

عندما اقتادوك إلى هنا كانت هناك ثورة! ربما لم تنجح أو تراها نجحت ولكنك منسي، هنا أنت لا تعرف ولا تستطيع بكل تأكيد أن تسأل، السؤال ليس أحد حقوقك، أبجديتك اختصرت على حروف التأوه والألم حتى مناجاة الله أو الرب أو أيا كان ما تعبد قد محيت تلافيف مخك، فالقانون الذي لا يعرفه العلماء ويعرفه فقط أمثالك هو: أن الكهرباء تجعل تلافيف مخك مسطحة كورق أبيض لا حروف عليه.

رائحة بصاقٍ وتبغٍ ودم، تليها رائحة بولك الذي جف مراراً على ثيابك (أو ما تبقى منها)، تليها رائحة موت، كل يومٍ هناك رائحة موت، هل أصبحت تميز رائحة الوافد الجديد من عرقه النظيف قبل أن يبتل بما سبق؟!.. أنت الآن تشبهني أكثر.

عندما تصبح قديماً لا يسقط التعذيب عنك بالقِدم لكن جسمك يبدأ بالتعود فتصبح تميز أحياناً بعض الأصوات وتتخيل أخرى، تأخذك ذاكرتك العميقة لرائحة أمك، ابنك، حبيبتك فلا تجدها ضمن الروائح المحفوظة، فتخلق واحدة تشبه رائحة تعرفها (عطر، وردة، طبخة لذيدة،..) أحياناً تنفع في أن تجعلك تبتسم، ولكن التبسم ليس من حقك هنا.

هل ما تزال أمي على قيد الحياة تنتظرني!.. صراخ بكاء..
هل تعلمت ابنتي أن تقول بابا!.. نشيج بعد ضربة..
هل تخرج أخي من جامعته!.. صعقة كهرباء..
هل أبي ما زال يبحث عن اسمي بين أسماء المفقودين!.. سقطة جسد على الأرض..

صراخ، كلمات، أنين، شتائم، ضرب وضرب وضرب، صوت، صوت!.. هذا الصوت أعرفه تماماً، صعقة طويلة، تخبط على الأرض، صوت، صوت، رائحة أعرفها!

إنها صابون أمي، تلك الرائحة التي كانت تصنع منها الصابون لأخي لأنه يكره رائحة الغاز، صعقة أطول وتخبط ثم سكون، غادرت الرائحة، أخرجوه من المعتقل وكتبوا على الورقة وفي الصفحات الكثيرة: "مات تحت التعذيب".

قال أحد الفلاسفة إن الجحيم هو "تكرار أبشع موقف عشته في حياتك بتفاصيله وردود فعلك ذاتها، كل ذلك يكرر إلى اللانهاية".. نحن المعتقلين نعيش في الجحيم.

افتح عينيك، أنت لن تكون يوماً تشبهني.

دلالات

E594284C-6860-435C-8F32-5DF10890CBB1
محمد وسيم عباس

مصور سوري... أعمل بمجال الإعلام المرئي في تركيا، وبصدد توثيق قصص أبرز شهداء الثورة السورية.

مدونات أخرى