الجامعة العربيَّة والفلسطينيُّون .. أيهما الملوم؟

الجامعة العربيَّة والفلسطينيُّون .. أيُّهما المَلُوم؟

12 سبتمبر 2020
+ الخط -

قد تتغيَّر السياسة، في أمور تكتيكيَّة، أو على المدى الطويل، ولكن أنْ يكون التغيُّر في أمر جوهريٍّ واستراتيجيّ، وفي هذه المدّة القصيرة، فهذا غريب وخطير. والإشارة هنا إلى موقف جامعة الدول العربيَّة غير المتَّسق مع ذاتها، ومع قراراتها نفسها التي لا تزال معتمَدة، ولم تعمل الجامعة على التمهيد للتنصُّل منها، أو تجاوزها، اللهمَّ إلا بما أقدمت عليه دولة الإمارات، وَفْق اعتباراتها الخاصَّة، بالاتِّساق مع إدارة الرئيس الأميركيِّ المأزوم، دونالد ترامب؛ فهل إلى هذا الحدِّ تبدو رئاسة الجامعة مُلجَمة بالضغوط والإملاءات الأميركيَّة الفوقيّة؟ وفي قضيَّة بالغة الحساسيَّة والجوهريَّة، تاريخيَّا، واستراتيجيَّا، وهي القضيَّة الفلسطينيَّة التي شغلت من اجتماعات الجامعة، وقراراتها، ونشاطاتها نحو العالم، الحيِّزَ الكبير. وهنا ينهض سؤال مهم؛ عن أدوار الجامعة المستقبليَّة، في القضايا والنزاعات العربيَّة والإقليميَّة؛ إلى أيّ حدّ ستكون معبِّرة عن العرب، أو حتى عن سياسات الدول العربيَّة؟
يحدث ذلك الموقف من جامعة الدول العربيَّة الذي هو أقرب إلى التواطؤ مع التوجُّهات الإماراتيّة، على الرغم من تكرار الإلحاح الفلسطينيّ العلنيّ أنْ تعلن الجامعة موقفًا من اختراق أبو ظبي، موقفها، قبل أن يتبعها اختراق سعوديّ، بالسماح للطيران الصهيونيِّ بعبور أجواء المملكة، إلى الإمارات، ومنها، إذ جاء في كلمة وزير الخارجية والمغتربين الفلسطيني، رياض المالكي، في جلسة الجامعة على مستوى وزراء الخارجية، وهو يتناول الإعلان الثُّلاثيّ الأميركيّ الإسرائيليّ الإماراتيّ: "وعليه، أصبح لزامًا علينا أن يصدر عنا موقف رافض لهذا الخطوة، وإلّا سيعتبر اجتماعنا هذا مباركة للخطوة، أو تواطؤا معها، أو غطاء لها، وهذا ما لن تقبله دولة فلسطين، ونأمل بعدم قبولكم لها أيضًا".

وبدت كفّة الأمانة العامّة للجامعة مائلةً لصالح الإمارات، ولصالح الدول العربيّة العازمة على اللحاق بها؛ برفض مشروع القرار الفلسطيني الذي طالب، ابتداءً، بصدور رفض للاتفاق الإماراتيّ الصهيونيّ، ولكنّ دولة فلسطين عدّلت، (وفقًا لما كشف عنه مسؤول دبلوماسيّ عربيّ لصحيفة "العربي الجديد")، من رفض الاتفاق إلى رفضها "كلِّ ما ينتقص من الحقوق الفلسطينيّة في الاتفاق الثلاثي"، لينتهي القرار إلى الاكتفاء بتأكيد الإجماع العربيّ حول القضيّة الفلسطينيّة وحقوق الشعب الفلسطينيّ.

بدت كفّة الأمانة العامّة للجامعة مائلةً لصالح الإمارات، ولصالح الدول العربيّة العازمة على اللحاق بها

هل أصبح الآن الموقف الفلسطيني هو النشاز؟ وهل لدولة الاحتلال، ورئيس حكومتها بنيامين نتنياهو الذي لا يكفّ عن التبجُّح بإنجازاته القائمة على أنّ السلام لن يكون إلا مقابل السلام، هل لها أن تفهم أنَّ الضَّوْء الأخضر العربيّ أصبح متاحًا لهذه القاعدة الجديدة، وأنه آنَ له، ولمَن يزيدون عليه عنصريَّةً، أو يزاودون، أنْ يمضوا في انفرادهم بالفلسطينيِّين، وفي مواصلة الضمّ الفعليّ لما تبقّى من أراضٍ فلسطينية؟ وقبل ذلك، هل لإدارة ترامب أنْ تفهم هذه الرسالة؟ أم أنها على الأرجح هي التي فرضتها؟ هل لو توفَّر موقفٌ عربيّ صلْب تستطيع الإدارة الأميركية أن تستخفّ بما لا يزال مسطورا ومُجْمَعًا عليه في قرارات الجامعة؟
وهنا يحاول بعضهم نقل صعيد النقاش، من موقفٍ إماراتيٍّ خارجٍ عن الموقف العربي، وضارٍّ بالقضيَّة الفلسطينيَّة، إلى مطالبة فلسطينِّيين بالاعتذار لأطرافٍ خليجيَّة، وذلك برفع العابر إلى مستوى الثابت، وبرفع الهامشيّ، نسبيًّا، إلى مستوى المَتْن، فلو بدرت من أطرافٍ فلسطينيَّةٍ تجاوزات في التعبير، وعمَّمت الهجوم، فهذا بالتأكيد لا يمثِّل العلاقات الفلسطينيَّة الخليجيَّة، على مستوى الشعوب، والأوطان، وكلُّ فلسطينيٍّ واعٍ ومسؤول يعلم أن في الخليجيِّين مَن ينشَدُّون إلى الوشائج نفسها، ويتخوّفون من المخاطر العامَّة التي يمثِّلها كيانُ الاحتلال على الأمِّة كلِّها، فما بُنِيت عليه الشعوب، ثقافيًّا، ووجدانيًّا، لا يتلاشى، فجأةً، بقرار هنا، أو اتفاقيّة هناك.

كلُّ فلسطينيٍّ واعٍ ومسؤول يعلم أن في الخليجيِّين مَن ينشَدُّون إلى الوشائج نفسها، ويتخوّفون من المخاطر العامَّة التي يمثِّلها كيانُ الاحتلال على الأمِّة كلِّها

كان المفترض في جامعة الدول العربية أن تحيط بهذه الاتفاقيّة الإماراتيّة الصهيونيّة من جميع أبعادها، الحقوقيَّة، وبجميع أبعادها الاستراتيجيّة والمصلحيّة، على المستوى الأمن الإقليميّ، فهي وَفْق البُعْد العربيّ تنتهك الموقفَ العربيّ الذي تبنّته، ودعت إليه، بل وروَّجته الجامعة، والمتمثِّل في مبادرة السلام العربيَّة التي تشترط التطبيع بانسحاب دولة الاحتلال من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلَّة، والقبول بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، منذ الرابع من يونيو/ حزيران 1967، في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون عاصمتها القدس الشرقية. وبصمت الجامعة العربية عن تجاوُز الإمارات مبادرتها، وانتهاكها، فهي عمليًّا، تضعفها، وتكاد تعلن تعطيلها.
ومن ناحية السلام والأمن الإقليمي، فإن الاختراق الإماراتيّ يولّد مخاطر وفرصًا لنزاعات جديدة؛ كون دولة الاحتلال لم تغيّر نظرتها إلى دول المنطقة، العربية، وغير العربية، ولم تكفّ عن عدوانها، على بلدانٍ عربية، كسورية، وإقليميَّة، كإيران، وذلك بغض النظر عن الموقف من نظام الحكم في دمشق، أو حكّام طهران، فحتى، ونحن نحمّل النظاميْن مسؤولية الجرائم الفادحة في سورية، ونحن نرى ما أسهمت فيه طهران من دمار في العراق، فإن إقحام إسرائيل في هذه المنطقة، وفتح مزيدٍ من المجال له؛ لتكرَّس عدوانها، وتفرض وجودها، لاعبًا فعليًّا، وعلنيًّا، في نزاعات المنطقة؛ بذريعة الحفاظ على أمنها؛ هذا الإقحام لا يخدم استقرار المنطقة، والدول العربية، ولا يخدم حتى الإمارات نفسها.

هذا الانسلاخ الإماراتيّ، تحت ذريعة الحقّ السياديّ، يتسبّب في انقساماتٍ عميقة، واصطفافات دخيلة

وكان المأمول من جامعة الدول العربيّة أن تتسق مع المادَّة الثانية من ميثاقها، والتي تنص على أنّ "الغرض من الجامعة توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقًا للتعاون بينها، وصيانة لاستقلالها وسيادتها، والنظر، بصفة عامَّة، في شؤون البلاد العربية ومصالحها"، فهذه الارتكابات النيِّئة، المُقْحَمة، والفوقيّة، من شأنها أن تسبِّب متاعب داخليّة وخارجيّة؛ داخليّة؛ لأنَّ الشعوب العربية، ومنها الإماراتيّ، والسعوديّ، والبحرينيّ، وغيرها، لم يثبت أنها راضية عنها، أو مهيَّأة لها، بل إن الدراسات تثبت رفضها التطبيع، وبنسبٍ عالية، وبعض هذه الشعوب، قبل ذلك، لها أزماتها المعيشيَّة، والتي لن تساعد هذه التحوُّلات والانعطافات المفاجئة، في حلِّها، بل من المتوقَّع أن تفاقمها، أو على الأقل، تمعن في إقصائها. وعلى مستوى العلاقات العربية، فإنّ هذا الانسلاخ الإماراتيّ، تحت ذريعة الحقّ السياديّ، يتسبّب في انقساماتٍ عميقة، واصطفافات دخيلة. وخارجيًّا، لا يساعد استقدام كيانٍ دخيلٍ ومُعادٍ إلى هذه المنطقة بالغة الحساسيّة، في توفير أجواء الوفاق، بل يعمل على قطع أيّ شعرة للثقة، وغلق أيّ قنوات حقيقيَّة للتفاهُم.
وأخيرًا، حين خرق الرئيسُ المصريُّ الأسبق أنور السادات الموقفَ العربيَّ الرسميّ، وأبرم اتفاقيَّة السلام مع إسرائيل، قاطعت جامعة الدول العربية مصر، وعلقت عضويَّتها في الجامعة، ونقلت مقرّها من القاهرة. أمَّا اليوم، ومع اختراق الإمارات الذي يتضمّن اعتماد "صفقة القرن"، فليس أنّ الجامعة لم تطردها، فحسب، بل هي لا تقوى على إصدار انتقادٍ لها، والأقرب أنّ الانتقاد، أو أنّ شكلًا من أشكال المقاطعة قد يكون من نصيب الفلسطينيِّين.