27 ابريل 2016
الجاسوس والمعنى الذي في بطن الفتى
ليس ثمة تفصيلات لحكاية الجاسوس الذي يعمل في دائرة المفاوضات، وقيل إن الأمن الفلسطيني قبض عليه. ثمة نوعان من ردود الأفعال على الحكاية، ينحو الأول إلى السخرية من "كبير المفاوضين" الذي تكرّر الحديث عن اختراق مفترض لمكتبه، والثاني التأسّي على الدائرة التي يرأسها، وعجزها عن تحصين الملفات والحواسيب التي تُعد، مجازاً، أسراراً، غير أن نوعاً ثالثاً من ردة الفعل، يصح أن نسجله هنا، وهو الإعراب عن ارتياحنا للواقعة، إنْ كانت ذات حيثيات حقيقية، وليست ملعوبةً لتلفيق جاسوس مديد. سبب الارتياح، للوهلة الأولى، يكمن في صيغة الخبر التي تفترض أن السلطة ترى في إسرائيل عدواً يجهل كواليسها ويتربّص بها، ومعنيٌ بالتجسّس عليها، وأن الواقعة، في توصيفها الرسمي الفلسطيني، تتمثل في ظهور الشخص الاستثنائي الوضيع الذي يخابر "الموساد"، فيما الموالون قبل المعارضين يزعمون أن هذا "الموساد" ليس في حاجةٍ لأن يخترق، وأن المشهد مفتوح أمامه، وأن صائباً أو غيره، إنْ حاول تخبئة رأسه بأطراف جلبابه، سينكشف للناظرين ما هو أكثر حرجاً له وللمفاوضات، من الرأس نفسه.
كان خبراً، يندهش له ذوو القناعة الراسخة، أن هواتفنا، حاكمين ومحكومين، مرصودة، لأن المحتلين موجودون بين شبكاتنا الهاتفية، ذات التراخيص الإسرائيلية، والأقمار الاصطناعية. فهم ليسوا في حاجةٍ إلى اختراقها، وبالتالي، فإن أحاديثنا وثرثراتنا مسموعة لهم، وحساباتنا المصرفية مقروءة، وحركة السفر والتنقل تحت النظر والعلم، والتنسيق الأمني لا يتثاءب فيما النميمة تتفشّى، وهي واحدة من مزاريب الأثير الذي يمسك المحتلون بزمامه، وتبث عبره موجات الإذاعة، وقنوات التلفزة.
فما الذي كُلف به ذلك الجاسوس الخارق، لا سيما وهو يُضبط في مكاتب دائرة المفاوضات، لا في ثنايا ومحتشدات الفتية الغاضبين، في مخيمات بلاطة وجنين وفي قرى الخليل وغيرها؟
يستدعي هذا الأمر استذكار بعض لقطات الشهيد الزعيم، ياسر عرفات، في شهوره الأخيرة. ولكي أتحدّث، هنا، عن شيء رأيته بنفسي، أقول إن أبا عمار كان في تلك الشهور، كلما أراد الحديث مع شخصٍ في أمر لا تحتمله الهواتف، ولا جلسات النطق المسموع؛ يصطحب الطرف الثاني معه في سفر، ولأنه كان يتحسب من قصور الضيافة العربية كان يشد صاحبه من يده إلى حديقة ملحقة بالقصر، أو إلى عطفة بعيدة، فيقول أو يسأل أو يسمع ما يريد. وإن كان الأمر يتعلق بكلمة وردّ غطائها، كان يقف ويبتعد بضعة أمتار عن طاولته، فيكتب ما يريد أن يقوله، على قطعة ورق صغيرة، ثم يمزقها ويضعها في جيبه، لكي يتخلص منها بمعرفته. أما على الهاتف، فقد شهدت بنفسي لقطة طريفة ومدهشة. اتصل به أحدهم يشكو من وكيل وزارة الداخلية، ويقول إن الوكيل ما زال يرخص جمعياتٍ لحماس. كان أبو عمار يضع هاتفه فوق كومة عالية من الورق، ويفتح الهاتف من الزرار البرتقالي الذي يرفع الصوت للجميع. أغلق مع المتصل، ثم طلب وكيل الداخلية، وبدأ بالصراخ عليه بطريقة حادّة، رأيتها في تلك اللحظة تضر بصحته، لأنه كان يعاني من أعراض إنفلونزا. عندما أغلق مع الرجل، بادرت إلى تهدئة ما ظننته انفعالاً. ابتسم سريعاً وأشار بيده، ما معناه، ليرخّص كما يشاء، وأردف متمتماً "هو يفهمني، ثم هذه جمعيات خيرية، هم عايزين يخنقونا؟"
كان الرجل مستهدفاً، ولا يفارقه الإحساس أن كل شيء مرصود، وأنه يقف في ذلك الخضم، مكشوفاً.
على الرغم من ذلك كله، لا تنتفي فرضية أن يحرص العدو على التسربل بالنعيم الأمني، وأن يستزيد من الترف على هذا الصعيد، وألا يكفيه أن يعلم بالشيء، من دون الاستحواذ على صور طبق الأصل للمراسلات والمكاتبات التي يتحاشى أصحابها إرسالها بجهاز "الفاكس" آنذاك.
ما يخفى على المحتلين هو المعنى الذي في بطن الفتى، أو العزم الذي يسكن روحه، في مخيماتنا وقرانا الأبية، وفي حارات مدننا الشامخة، وليس الذي في مكاتب صائب عريقات وسواه.
كان خبراً، يندهش له ذوو القناعة الراسخة، أن هواتفنا، حاكمين ومحكومين، مرصودة، لأن المحتلين موجودون بين شبكاتنا الهاتفية، ذات التراخيص الإسرائيلية، والأقمار الاصطناعية. فهم ليسوا في حاجةٍ إلى اختراقها، وبالتالي، فإن أحاديثنا وثرثراتنا مسموعة لهم، وحساباتنا المصرفية مقروءة، وحركة السفر والتنقل تحت النظر والعلم، والتنسيق الأمني لا يتثاءب فيما النميمة تتفشّى، وهي واحدة من مزاريب الأثير الذي يمسك المحتلون بزمامه، وتبث عبره موجات الإذاعة، وقنوات التلفزة.
فما الذي كُلف به ذلك الجاسوس الخارق، لا سيما وهو يُضبط في مكاتب دائرة المفاوضات، لا في ثنايا ومحتشدات الفتية الغاضبين، في مخيمات بلاطة وجنين وفي قرى الخليل وغيرها؟
يستدعي هذا الأمر استذكار بعض لقطات الشهيد الزعيم، ياسر عرفات، في شهوره الأخيرة. ولكي أتحدّث، هنا، عن شيء رأيته بنفسي، أقول إن أبا عمار كان في تلك الشهور، كلما أراد الحديث مع شخصٍ في أمر لا تحتمله الهواتف، ولا جلسات النطق المسموع؛ يصطحب الطرف الثاني معه في سفر، ولأنه كان يتحسب من قصور الضيافة العربية كان يشد صاحبه من يده إلى حديقة ملحقة بالقصر، أو إلى عطفة بعيدة، فيقول أو يسأل أو يسمع ما يريد. وإن كان الأمر يتعلق بكلمة وردّ غطائها، كان يقف ويبتعد بضعة أمتار عن طاولته، فيكتب ما يريد أن يقوله، على قطعة ورق صغيرة، ثم يمزقها ويضعها في جيبه، لكي يتخلص منها بمعرفته. أما على الهاتف، فقد شهدت بنفسي لقطة طريفة ومدهشة. اتصل به أحدهم يشكو من وكيل وزارة الداخلية، ويقول إن الوكيل ما زال يرخص جمعياتٍ لحماس. كان أبو عمار يضع هاتفه فوق كومة عالية من الورق، ويفتح الهاتف من الزرار البرتقالي الذي يرفع الصوت للجميع. أغلق مع المتصل، ثم طلب وكيل الداخلية، وبدأ بالصراخ عليه بطريقة حادّة، رأيتها في تلك اللحظة تضر بصحته، لأنه كان يعاني من أعراض إنفلونزا. عندما أغلق مع الرجل، بادرت إلى تهدئة ما ظننته انفعالاً. ابتسم سريعاً وأشار بيده، ما معناه، ليرخّص كما يشاء، وأردف متمتماً "هو يفهمني، ثم هذه جمعيات خيرية، هم عايزين يخنقونا؟"
كان الرجل مستهدفاً، ولا يفارقه الإحساس أن كل شيء مرصود، وأنه يقف في ذلك الخضم، مكشوفاً.
على الرغم من ذلك كله، لا تنتفي فرضية أن يحرص العدو على التسربل بالنعيم الأمني، وأن يستزيد من الترف على هذا الصعيد، وألا يكفيه أن يعلم بالشيء، من دون الاستحواذ على صور طبق الأصل للمراسلات والمكاتبات التي يتحاشى أصحابها إرسالها بجهاز "الفاكس" آنذاك.
ما يخفى على المحتلين هو المعنى الذي في بطن الفتى، أو العزم الذي يسكن روحه، في مخيماتنا وقرانا الأبية، وفي حارات مدننا الشامخة، وليس الذي في مكاتب صائب عريقات وسواه.